منبر العراق الحر :*— كتب: لخضر خلفاوي….
-“…قالوا يا صاحب الشّجن و المنافي أَمازلت تذكرنا عند “كلْبكْ”*، لقد أنسانا الشيطان أن نذكرك فلبثنا في نزغه بضعَ سنين.. قلت لهم اِئتوني بأخٍ لي من أبيكم و لا تنسوا القميص ، فجاءوني متأفّفين متأفّكين! كنتُ أعلم أنّهم بِكاذبين ! و كنتُ أعلمُ أنّهم لا يستطيعون للموتى بعثاً؛ و لا يمكنهم إحياء رُفات أخ لهم لم يعرفوه أبدا قبل أن ـ يتنَطّفُهُم* ـ فيما بعد والدهم ؛ إذْ كانوا عند قضائه قبائلَ بذور سائلة عاقّة ـ تتَمَنّى ـ و لا تستطيع للإحليل سَرباَ و لا نقبا ، ثائرة، تتمطى و تلعب في أدغال التكوين من صلب والدنا الحارث بن المغير ، بن أحمد بن الشائب .. و استحال إلى شوائب نسبٍ ” خالدة ” في بواطن مقبرة “أولاد فاضل” بجانب مَراح و مناخ القبائل التي -تعزِّب- فيه في معظم مواسم الزرع و المرعى …
-أين أخي و القميص ؟ قالوا تركناه في ( الضيْعَة) و ما أكثر ( ضيعاتنا)! .. هَهُناكَ* تركناه يلعب و يرتع عند أقواسنا و رماحنا و نصالنا ليتعلم الطّعنَ من الخلف و الرّمي و التصويب والقنص باتجاه الظُّهور كذلك الأدبار إن كان أهلها غافلين.. أمّا القميص لم نَعدْ نملكه فتفاصيل قصّتنا كما تعلم مُسبقاً يا أخانا حرّفت مقاساته، و حُرَّقاً فتكَ الذئب بجميع مصانع النسيج لهذا تركنا نسوة القرية و امرأة “الحارث” حزِنين.. إنّا لَوَاللهِ و النسوة لحزِنون من ضياع القميص.. فهلّ لَقَمَّصتَنا*يا أخانا و أنتَ خير الموفين المُقمِّصينَ***في الكيْل !.. و إنّا لنراكَ كما عهدناكَ من المُحسنين !…”. تنهّدت و أنا أتمتم على مسمعِ السّر : إنّ نزغ الشيطان لشيء عظيم .. و كلمة أُسرّت في نفسي و ما كنتُ مبديها لو لا الله الذي أَلْهَمَنِيها ؛ أنتم شرُّ المكائد و الله أعلمَ بما تزِرون و كذلك ألقى السامري يا إخوتي , و كذلكَ ألقى السّامري…!.”.
-تستمرّ ككل يوم هكذا أصوات تتصارع في بواطن عقلي دون انقطاع .. لأنّها تلبّستني باكرا حيث كنتُ أتمَشَّى في هرولتي المعتادة اخترق الفضاءات و الأزقة و الممرات إلى وجهتي أحدّث عقلي بهذه الأفكار الإرهاصية التي بدأت تبني نفسها بفوضى سردية خلاّقة كعادتي و تحفر في ذهني بعض المواجع و لا أدري سبب اجتياحها لي بهكذا بناء فوضوي إبداعي سريالي .. كنت أجهل (من أو ما) الذي استفزّ ثيمتها هذا الصباح حتّى بُعِثَ وعيي الحاضر و استفاق بغتة كما أوّل بغتة شهقة الحياة .. و كما أوّل بغتة شهقة السكرات .. و أنا أسير كما جثة ( الزومبي)*الحائرة تسعى متوغّلا شارع **Saint-Spire .. يبدو أن ابن الحارث في منافيه هذه لا يجيد عدا توغّل شوارع الغربة و الاغتراب:
-الله يسهّل يا ولدي .. ربّي يعاونك ! ” كان والدي يتلو عليّ أنشودة قضاء الحوائج هذه في كل مضرب لمّا اشتَدّ عودي لمواجهة الحرائق المستقبلية و هشيم و شوائب ما تركه الكبار من قبلي .. من أيقظهم من الكهف ؟! …مالها الفكرة تزدحم و تكتظ بكَ يا والدي … يا جبّار ! .. يا أنتَ لماذا تُورّطني في نصٍّ آخر و ترغمني على النّزف أكثر .. الحبر الأسود يتدفّق من مسامات جلد راحتي كما الطوفان ، يبدو أن العبارة بتفاصيلها أكبر و أعظم من أن تقبل الوأد و التورية تحت جلدي ! أُخبركَ أن الحِبر و الحفر تعبا منّي !…
– التفتُ نحو الصوت الصّادع بدعاء التسهيل و التيسير ! كم كنت محتاجه هكذا دعاء من حيث لا أنتظر في -أَثنائِيَ*تلك …
-.. “آمييييين يا بابا !” ، دون أن أشعر كان ردّي أطلقته في نفسي بعفوية كبيرة و بصمت المقهورين في ألباب إنسانيتهم.. العابرون بين ممرات السوق هذا الصباح و أنا متجه إلى موعدي الصباحي .. “بابا الهَهُنا” ليس كَ ( بابا الهَهناك) ، إنه شيخ قصير القامة كثّ اللحية ، غزير الشيب مشرق الوجه حمّالا للتّباشير و كيسا خاصّا بمسعاه.. المسعى ساعد و الساعد مسعى .. الأكياس يا صاحب السبيل إلى الله التي تحمل الصدقات ليست أوزارا مهما ثقلت.. كان يدعو المُحسنين و المؤمنين و الإنسانيين و الدّينين أن يساهموا بتبرعات ما جاد به كرمهم و حسهم الإنساني في إعانة جمعية المسجد التابع للمنطقة ، رغم كل هذا النفور و العداء للمسلمين و العرب و الأجواء المُكهربة بسبب ( اعتداءهم على الكيان الصهيوني !) في فلسطين المسروقة من قبل أبناء عمومتنا اليهود الكرام !.
-لا أدري ما دَهاَ المصادفات و الأقدار في هذه الفترة ، كلها تحيلني ككل مرة إلى والدي هناك في القرية التي عاد إليها في مشوار حياة عكسي كنازح حضري هذه المرّة .. في الحقيقة حياتنا كلها انزياحات و نزوح مستمرة ( من و إلى / في الاتجاهين ) هكذا تفعل الفِيَلة في هزيع العمر .. تعود إلى أمكنتها الأصلية لتدفن نفسها عند حضور المنيّة .. اتخذ باديتنا كمُستقرّ لممارسة آخر مشوار حياته بعيدا عن آثام مدينتنا الماكرة و اللّئيمة بفحش كبير …والدي ذهب إلى ربه .. هكذا أظنه عندما اعتزل ناس المدينة بكل صخبهم و لهاثهم اللامنقطع!
-في الحقيقة ليس على المُغترب أو المنفي في بلاد الغرب أن ينقض غزل سُجّاد الماضي أو يجهد كثيرا ذاكرته و يعصرها و نفسه و نفسيته بأن يتذّكّر من تركهم وراءه في مسقط رأسه من أهل و صحبة و أمكنة و كل تفاصيل ذلك الوجود الذي لم يعد موجودا (كواقع مادي ) معه .. فهو يتذّكرهم كلّهم و جميعهم بما في ذلك الأمكنة و تفاصيل أكوانهم و كياناتهم و بشرات وجوههم في كل اللحظات، تظل الصور تتوالى و تتدحرج كفيلم وثائقي تاريخي لا ينتهي و تنساب مع حركية المُبعد عن أهله بشكل (كرونولوجي )، دائم كما المرض المزمن و الهوس المستعصي .. مهووسون بهم نُصبِحُ و نُمسي و هم بعيدون عنّا و تفصلنا قارّات و جغرافيا مهولة .. نفكّر فيهم بكل الملامات و بكل الملاءات السوداء التي تذكرني بطيف و قوام الرّاحلة في الغياب/ القابعة في القلب خالتي (شويخة).. نفكّر فيهم بكل التمنيات و كل الرجاءات، نصبح ذلك المنظار متّصل بنياط القلب ، منظار لا يصدأ و لا يكل موجه باستمرار بقنص شديد نحوهم .. النّسب يا الله لا تأخذه سِنة و لا نوم .. فمجرّد كلمة منهم تجعلنا إمّا أن نطحن الفقد في لحظات طحنا و نبدده و تزغرد فينا أرواحنا انتشاء بالانتماء الذي يسأل عنك من خلال تلك الكلمة التي باغتتك ، إذا كانت طيّبة و تجعلنا أبأَسْ و أحزن و أخذل و أتعس واحد إذا كانت الكلمة مسمومة و مُلغّمة أو ” خبيثة”… و يحدث أن نُصاب باليأس التام و الإحباط من ذلك الانتماء و تلك الصِّلات إذا عَقُمَ الكلام و انتفت الكلمات و السؤال الذي ننتظر إبراقاته الوافدة من هناك يتأخّر جدا ، جدا ، من عادة حظي المُخدّر أنّ الأشياء التي انتظرها و أتوق إليها بشغف تأتيني عادة متأخرة ، و يكون “السامري” دائما قاطع طريقها .. لهذا عندما تصلني جدّ متأخرة و بعد نسيان الانتظار و المُنتَظَر يكون الشغف بها قد برد .. أصبح بلا دهشة و دون اكتراث بها و لو كانت جبالا من الماس و الذهب ! قد تشعر أنّك محسوبا عندهم بالمَيّت ، و هل يُذكر الموتى .. البعيدون .. المبعدون عن العين بعيدون عن القلب .. هي الحقيقة المرة .. (وصايا الأموات تبقى و تَعْلَق عند أرجلهم !)، كما تحِب الرّاحلة/ القابعة في رحمها الله أن تُذكّرني بها عند كل مناسبة حديثية …
-بينما هم هناااااك رُبّما في شُغلهم -فَكِهون- و ربما -حزِنون- و رُبّما منشغلون عنكَ و لا يذكروكَ إلا قليلا أو في عدم تذكّرهم لك و نسوك بالمرة يُرسلك الخبير العليم و هو الله و يُسفِّرُكَ أثيرياً دون تذكرة إليهم في منامهم ؛ فيقول لكَ أحدهم لقد زرتني في المنام هذه الليلة.. إن شاء الله خير .. هل بكَ سوء!؟ ! يا الله ! كم أنتَ كريم .. تُريد من الإنسان أن يصل الناّس من رحمه و قرباه ، فإن نسوا و كفروا ببعضهم بعض و تجاهلوا السؤال البيني تكون أنتَ بهم رحيما واعظا و مصلحا ترسل إليهم أطيافنا الذبيحة نهارا أو بياتا و هم ( قائِلون أو سُباتيون) من خلال رسل الحلم لتذكيرهم أن هناك “كائن حيّ ” انبثق من أرحامهم يفكّر فيهم دون انقطاع ، ليس له عدا التفكير فيهم بكل نوستالجيات الذي جازف في اختيار رحلة ( صيد الأحلام) بعيدا عن قفارهم.. أتحدث عن قِفار القلوب و العقول ، إنما القلوب هي التي تقفر و ليس الجيوب !. الانتماء و النسب منجم ثريّ كل البدايات و كل النهايات شيء ( ڥيتالي vital ) ، أساسي مهما كانت رداءة العلاقات و تفاصيل التفاعل بين الأفراد الذين تجمعهم صلات الرحم و الدم …يقول السّلف عندنا : الدّم إذا لمْ يحِنْ – ايْكَندر- ، أيّ يئِن و يتنهّد !.
***
كنتُ كما المنكوب أو المكلوم أو كما أصابه نصب من السّماء ، ألهث في شوارع و أركان وسط مدينة “مسكن-الكاهنة” التاريخي ، و لا كهنة فيها يذكرون ، كلهم ماتوا و بقي بعض الزنادقة يبيعون وهم قراءة ( الطّالع و الهابط!)… أبحث عن نبأ عظيم ، عن خبر ، عن بصيص فكرة تعكس و تدحض كل أفكار الشؤم و الحزن التي استعمرتني هذا الصباح بسبب ما سمعته من قول نسوة العائلة في بيتنا و هم يطرقون بقلق شديد موضوع والدي الذي خرج و لم يعد لبضعة أيام .. لقد سافر كعادته نحو وجهة من وجهات الوطن البعيدة الفلاحية للتجارة حيث كان -قبل أن يلتحق و يستقر بمصنع النسيج الكبير بمصلحة اللوجيستيك- يزاول نشاطه كممول السوق المحلية يسوق شاحنة ملاّكي التي يستعملها لجلب الخضار و الفواكه إلى مدينتنا و كان شريكه و صاحبه بعد عودته من فرنسا ” سي العيد” ، تُطلق عليه هكذا كنية – العيد اسطوبلو – ! كانت النسوة تتحدث عن إمكانية حدوث مكروه له في سفره ، فمن عادته ألا تتعدى سفرياته أسبوعا.. لقد تجاوز غياب والدي الأسبوع ، و حريمنا يتحدّثن عن قضائه !
كان الأمر بالنسبة لي رغم قسوة أبي الجبارة معي مزلزلا .. إنّهُ أمر لم أكن أضعه في الحسبان ! والدي لا يموت .. والدي جبّار .. ” النّمر، الأسد ” كما يصفه أصدقاء طفولتي .. لا يموت ! أبي لا يموت !
كنتُ مازلت تلميذا لم يعبر بعد الطور الأول ( المدرسة الابتدائية)…
-أذكر أنّ والدي كان أحيانا يبادر بأن يأخذني معه في سفرياته و أصاحبه في شاحنته و أرافقه إذا لاحظ أنّ المسافة أو مدة السفر ليست بالطويلة و لا بالشاقة …
أبي كلّما سمحت الفرصة الاختلائية بي يحب النصح الكثير بأسلوبه الخاص و لأنّي إبنه الأكبر كان يكثف من نصائحه و من قسوته عليّ أيضا .. أنسى لأبي كل قسوته و سوء القول لمّا يضحك في وجهي و يعاملني على أنّي كبيرا و استحق الاحترام و التبجيل !. لا أُخفِ أنّي كنت في نظرهم ( الصغير / الكبير ) في آن و ( الفيصل/الخضر) في آن .. لعبة الأدوار هذه في شخص واحد متعبة نفسيا و … جدا! لم أكن، أو لم أذكر أنّي كنتُ طفلا في حياتي ( مئة بالمئة و صغيرا كما الصغار مئة بالمئة و يجب التعامل معي كذلك وفق سنّي الحقيقي ) دائما كنتُ أتأرجح بين-بين ، ( أصغراً / أكبراً)!.
لطالما رددوها على مسامعي هذه الصفة ( الاِبن الأكبر !) الاِن الكبير، البدري، الأوّل! لا أُخفي على أحد أنّي أحبّ فكرة -تكبير نفسي – .. (صوت بداخلي كان دوما يهتف تكبير ! ، فأجيب :”فيصل الأكبر . يعيد الهتاف تكبير ! فأُجيب : فيصل الأكبر ! )كنتُ أتمادى في تكبير ذاتي مذ الصغر ، لأنّي أعرف كلما كبرتُ يشعر بعضهم بصغره و بقزميته هو ، فيكنّ كل الكره و العداء دون سبب .. و هذا الذي أحتاجه لأكبر أكثر و أصفع أكثر الصغار .. لما استمر في ( النّمو بهذا الشكل و بهذه الفلسفة). الله الذي ربّاني على أَعينه نجّاتي من داء العظمة و الحمد لله!.
***
-يا صاحب الصواعق.. ويحك! لم تفاجئني بشكلٍ كاد أن يكون صاعقاً قاتلا نصائحه إلا في تلك المرة التي سافرت معه و هو يسوق الشاحنة و نظره مركّز تارة على الطّريق و تارة يوجهه نحوي و أنا بجانبه أحافظ على هيبته و الخوف منه و احترامه و سعادتي أنه اختارني ككل مرة لأصطحبه في هكذا سفريات عمل .
– فيصل .. يا ولدي ! انصت إليّ جيدا .. لقد بلغتُ من العمر عتيّا و لا أحد يضمن عمره و إخوتك مازالوا صغارا ، فلا تنسَ أنَّك ( الأكبر)، الأوّل ، و عليك تحمّل مسؤوليتهم من بعدي لمّا أموت ، أنتَ خليفتي من بعدي.. لا تنسَ هذا ! هل فهمت ؟! أجبني ، هل فهمت و فقهت قولي ؟
– كم كان صادما صاعقا قول والدي .. لم أتوقّع هكذا موضوع من والدي ! إنه يزلزل كل كياني، و أنا الذي كنتُ أتقوّى بجبروته الطاغي و بنظراته الرّاعدة و بوجهه الصّارم الرّاعب المُرعب و بوقفته و انتصابته الجَبّارة ! كان والدي سفّاحا بامتياز مختص حصريا بإذلال الضُّعف و الهوان على النّفس ! لمْ أرَ والدي يوما في موقف ضعف أبداً .. فكيف يموت هذا الرّجل ! كيف يموت كل هذا الانتماء المُباشر و كيف استطيع أن استخلفه في أرض قريةٍ ظالمٌ ، قاحِطٌ أهلها .. أنا صغير يا والدي ! صغير والله يا أبانا و لكنه خُيّل لكم أني ( الأوّل و أني الأكبر !)، أنا الصغير ، أنا الآخر ! أنا أصغر يا ولدي و لا أقوَ على تحمّل مسؤولية إخوتي !! فلا تقول هذا يا ….! لا تقُلْ هذا ! ما دهاكَ ! أنا لم أشفَ بعد من موتة شقيقي خالد ، الذي أخذته ( البومة )… يا بومة النّذر السوء متى غفلتُ و مررتِ بالديار و لم ألحظكِ !؟ لا تفعليها ثانية مع الحارث ، أرجوك ، لقد آمَنْتُكِ على “خالد” أخي الأصغر من قبل و لكنك أخذتِ روحه غدراً بمنقارك و ما نفع رميي للجمرات صوبكَ كسّرت كل قرميد البيت و ما تكسّرت شوكة الموت عندنا .. مازال قلبي يتّقد لفقدانه أمام عيني … اتركيني و شأننا .. هذا أبي و هو من أهلي !…
يوقف تخميناتي و هلعي و كل أفكار الخلد التي غيّبتني عن الانتباه لهول ما سمعته ، صوته المرتفع قليلا صفع شرودي ليجرّني مُعيدا مني إليه مرة ثانية يسوقني إلى “هو” ، إلى الجبّار أبي :
-يا طْفَلْ! وان رحتْ! ما بكَ سرحتَ أَوَ لا تسمعني ؟
قبل أن أتلعثم بالإجابة و أردّ عليه بأي حيلة تبرر سهوي عنه ، كنتُ أُحدِّثُني و أقول لنفسي ثانية بين ومضات سؤاله الغادر :
-هكذا أريدك .. صوتك الرّاعد ، المُربك، المرعب ، المُرهب ،
لا تمت ! أنت هكذا أفضل ! أنت لا تموت .. ليتَ الموت يخاف منك مثل ما نفعله نحن! لا تتركنا فأنا رغم ما يحدث من فقد و حرمان و قفار في هذه البادية مُكتفِ بكَ .. وجودك -وجود-و كل شيء .. و أنا التوّاق لكي أكبر بسرعة ( الأرق النّفسي لشدّة ضراوة الجرح الذي يسكنني ) مازلت صغيرا .. أنا رغم كل شيء أريد أن أكبر ، و أكبر ، و أكبر ثم أكبر كي أطلع إلى إله الجبروت و التجلّد و القسوة التي تتوّج تفاصيل وجهك البربري البركاني عندما يغضب ! امهلني قليلا من الوقت يا والدي و لا تمت حتى أكبر ، حتى انتقم من الدّنيا و أُجاريها و أواقعها و لمَ لا نُنجبُ جيشاً جرّاراً خِضّارا… وقتها سنتحدث عن أمر الموت !…
-لم استطع الإجابة عن سؤاله الذي كنت لا أدري إن كان مزاحا و مداعبة سوداء أعرابية أو تهيئة نفسية من لدن بدوي جبار عتيد ! .. و لماّ أخذ يكرّر معي نفس السؤال حول معرفة رأيي و موقفي من وصيته ، انفجرت بالبكاء و لم تردعني خيفته و لا رهبته و لا هيبته .. هذا يسمّى ب ( الانهيار) ، فهناك من يزاحم أبي في صدري و يمارس نفس السطوة و نفس القهر مذ أن رحلت والدتي بعد طلاقهما ؛ إنها متلازمة ( الحزن ) !
-إلى هنا توقّف والدي عن إلحاحه و لاَنَ قلبه ثم ابتسم و الصدمة من بكاء الفُجأة ترسم في آن ابتسامته .. كان مصدوما بهطول دمعي و أنا أردّ عليه بكل أسى ليست من عادتي أن أُعبّر عن مشاعري نحوه ، فهذا أمر يكاد من المستحيلات قد نبوح بكل مشاعرنا غاضبة كانت أو راضية جيّاشة حامدة و نحن نتوجه إلى الله في أيّ وقت و لا نخجل و لا نخاف ، نقول لخالقنا ما بداخل أنفسنا دون تردد عند اقتضاء البوح ؛ إلا أبي فهذه عقبة لا يمكن تجاوزها لأن بيني و بينه حجاب من حديد و أسوار عظيمة صنعتها الخشية و الرهبة منه .. من يتجاوز عقبة الحارث !! فلا أدري كيف استرسلت باكيًا :
-لا أريدك أن تموت ! لماذا تموت ! ما شأننا نحن و الموت .. مازلت صغيرا يا والدي ! لا أريد أن تموت .. احتاجك يا بابا ! احتاجك ! فلماذا تحدثني عن كل هذا ! لا أفهم ! كانت الكلمات و مخارجها جدّ شائكة الايقاع ، كفكفة دموعي صعّبت عليّ الاسترسال بسلاسة أجوبتي و محاجاتي و جدلي له…
إلى هنا ، خفّض والدي من سرعة القيادة للشاحنة ثم ركن إلى جانب الطريق و استرسل يضحك عليّ و هو يقول :
يا طفل ما بكَ! الدّنيا ماهيش ساهلة و عليّ أن أحضّرك من الآن و أُهيّئك لهذا السيناريو و أنت رجل و ابني الأكبر و عليك تحمّل المشعل من بعدي و تهتم و ترعى إخوتك من بعدي … أَهل يبكي الرّجال !؟ قل هل يبكي الرّجال ؟! كان لا يدري أن باديتنا وفّت و كفّت بتهيئتي لخوض كل الحروب الممكنة و اللاممكنة!
-فجأة توقفت عن البكاء و أنا أحاول درء الدمع بكفي ، يمنة و شمالا من على وجهي و بدأ يتقلص هلعي و خوفي شيئا فشيئا من خطر فقد ( الانتماء المباشر )، و فقدان الأبوة الجبارة كهذه التي تحرسني بجبروتها و قوتها .. لمّا مدّ يده العظيمة على وجهي و أخذ يمسح دمعي و يساعد يدي الصغيرتين في مناوشة تلك الدموع المنهمرة كان كأنه استلّ كل الجبن و كل الخوف و كل الهلع من على وجهي و من صدري الخائف من الفقد الأبدي فمدّني بثلاثين سنة من عمري …
ألم أقل لكم أنه لا يداوي الأمور الجبارة إلا جبّار!!!
لم انتبه حتى أصبحت ابتسم و أضحك معه بعد وضع يده ” الكريمة” على ناصيتي و خدي ! فغطاّني الأمان و أنا في حضرته ؛ لأنّي أعرف أنّ أبي وحش كاسر ، نمر ، أسد سيلتهم العالم لو يقترب أحدهم و يؤذي شعرة منّي أو أراد بي سوء … هكذا كنت اعتقد …و يعتقد كل الأطفال …
ثم أخرج من كيسه البلاستيكي حبّات التّين الكبير الذي اشتراه على تجّار حواف الطرقات في العراء خلال سيرنا و رحلتنا باتجاه وجهتنا .. هو يحب التّين مثلي كنت آكل التين بنهم و أمسح دمعي و أضحك و هو يمازحني بلطف و يهوّن من روعي بسبب ذكره ل الموت و الرّحيل . كنتُ ألوك حبات التين باستلذاذ كبير و استمتاع و أقول في نفسي ( و التّين و هذا الوالد الجبار القاهر الأمين ، المُبين!)…
***
كنتُ ألهث كما المجنون في وسط المدينة علّني أجد كاهناً واحدا حتى و لو كان كذّابا أو واحد من بني عمومتي أو من أبناء باديتي من العشائر الأخرى ( نزلوا للتسوّق) و شراء مستلزماتهم الأساسية الغذائية من محل( عبد الله العموري ) للمواد الغذائية ..سألتُ بعضهم واحدا واحدا ، ما إن كانت لديهم معلومات عن والدي ، أو من رآه آخر مرة ؟ لكن الأجوبة زادت من لهيب قلقي و فزعي و هلعي خوفا بأن يحدث مكروه لوالدي ! كنت في حيرة من حزني و قلقي و لا أحد استطاع أن يؤتيني بالخبر اليقين ! وقتها لم أكن أملكُ قبضة الرسول !.
كنتُ مُصرّا على عدم الاستسلام في البحث عن من يعرف أبي و تكون لديه أدنى معلومة تفيد بأنه على قيد الحياة و بخير …
حتى شعرتُ فجأة بقبضة جامدة تمسكني من خلف ، فالتفت و اتضح أنه ( السعدي ) الأمين ابن عمّي (الجدّ ابراهيم) …
-ما بكَ يا فيصل !؟ خيرا إن شاء الله ! ما الذي حدث ؟ مالك على هذا الحال ؟ ليست من عوائدك أن نجدك في هذا المكان ، أليس لديكَ دوام اليوم ؟ كيف وصلت هنا ؟ إنها مسافة بعيدة جدا مقارنة بسنّك ؟ كيف أتيت إلى هنا من حي بوحفص عيسى ال( HLM) مشيا لوحدك ؟! .
-لا يهمّك ! انسَ كل هذه التفاصيل ! بابا ! بابا يا ولد العمّ ، هل عندك أخبار عنه !؟ بابا … ب……ا…..با! ثم لم أتمالك نفسي و انفجرت منهارا ببكاء مُبرح هاطل حتى سُمع بكائي من حولي ….
-يا لطيف ! ما به باباك !؟ والدك مسافر لجهة الغرب الجزائري منذ أيام و تعلم بذلك ، دزاير كبيرة يا ولدي ، يعني باباك سافر من الشڨ إلى الشڨ ؟ مابكَ ، ماذا حدث لك ؟ ما لك مذعورا بهذا الشكل !؟
– لقد سمعت نسوة العيلة في البيت يتحدثن عن ورود أمر قد يكون قد أودى بحياته و أن غيبته الطويلة هذه المرة لا تفسير لها إلا أنه قضى في الطريق و لم يصل بعد خبره !!
– يا مهبول ! ماذا تقول !؟ ما هذا ؟ (“أعوذ بالله .. بعيد الشّر عليه ! يا له من هراء نسواني !!! والدك بخير يا حبيبي ! لا تبكي ! تعال ! تعال! و أخذني في أحضانه و أوّل ما فعله هو ضمّي إلى صدره و أخذ يمسح دمعي التي غسلت وجهي ! كان محيطني برعاية حضنه ( هنا الدّْم حنْ) و بتربيته على كتفي و هو لا يتوقف عن تهدئتي و طمأنتي و يقول أنه لا داع للهلع و الخوف !
– لا أريده أن يموت ! هل تعرف ذلك ! لا أريد والدي أن يرحل عنّي ! أريده أن يعود إلينا سالما و لتذهب الغنائم إلى الجحيم ، يعود إلينا جبارا ، قاسيا ، يهتز الثرى من تحت قدميه ! فليكن كل شيء و ليكن كل حماقات الدّنيا .. فقد لا يحرمني من كلمة ( بابا )… بابا .. إنه بابا يا ابن العمّ هل تدري ما معناها ! إنه جذعي الكامل و أصلي المُطلق ! أريد والدي ! أريد نسبي أن يبقى ..النسب لا يموت ! .. إنه ” أبي و هو من أهلي يا ابن العمّ!. أنا الذي أمام القاصي و الداني لمّا يسألوني عن نسبي في غيابه ؛ أنتَ ابن من ؟! فأجيب بسرعة البرق : “أنا ابن أبي”، كأنّي كنت أقول لهم أنا ابن الرّعد ، ابن البرق ، ابن الريح و الأعاصير و هل يُجهل كل هذا ، إلا صفة أو كُنية الشمس تركتها حصريا لأمّي .. بعد طلاقها أصابها كسوف و تردّى عليّ خسوفا !
–
– و لما يكون السؤال مازحا من طرف صحبته و بحضوره ينفجرون ضحكا علي من إجابتي و يضحك أبي معهم على ما ورد منّي من ردّ ساذج عفوي و حكيم ! ” أنا ابن أبي ! فليعلم العالم بغيبه و بظاهره أنّي ابن أبي !! فلا تمت يا أبي ! أرجوك لا زلت احتاجك و لم أكبر بعد ! أنتَ الكبير ، الأكبر الجبار في قلبي !.أحيانا لمّا أرَى وجهه و هو كظيم لأهوال الحزن الذي يسكن صدره مذ الصغر كنتُ أتمنى أن -أؤُمّهُ – ، نعم أتمنّى أنْ أكون أمّه، جدّتي “مريم النّموشية” التي حرموه منها و هو في الفقد صبياً!
– هوّن عليك ! هوّن عليك يا صغيري ! والدك بخير و الحمد لله ! لقد تأخّر في العودة بسبب عطل في الشاحنة و هو ينتظر إصلاحها فقط و لن يتأخر .. فخلال يوم أو يومين و تلتقي بوالدك يا كبدي ! لا تحزن ! والدك آتٍ إن شاء الله سالما غانما ! هيّا ، لأوصلك إلى البيت لا يحق أن تعود بمفردك و سوف أطمئن أهلك حال وصولنا .. استغفر الله ما هذا الهراء و الفال !! هيّا بنا … لنعود و نطمئنهم..
لقد أحياني مجيء ابن العمّ في وقت أهوال قلبي حزنا و خوفا على والدي ، و تبدّل حال حزني إلى انفراجة صدرية عظيمة بددت كل مخاوفي و حزني على أبي ! النّبأ العظيم؛ أن أبي مازال موجودا هو ” الوجود” ، يكفي وجوده وجودا ! أنا مازلت صغيرا و لو أني كنتُ الأكبر في أعينهم !
-الله يسامحك يا والدي الجبار ، لماذا زرعت في بذرة الخوف من الموت و الفقد و أنت لم تبلغ بعد الأربعين حولا ، ما الداعي لذلك و ما داعي استعجالك بالساعة و ظلّي يريد أن يتمطّط و ينمو أكثر بوحودك ؟. لماذا بعض العرب يجتاحهم سنّ اليأس و الإحباط رجالا و نساءً في مقتبل العمر ؟!
***
كانت الخالة نادية التي تشتغل في المستشفى ذات قيلولة تطالع كالعادة في يوم عطلتها مجلاتها الأجنبية الوافدة من فرنسا، فإذ بها تدخل في نقاش سياسي خاص بالمشهد الفرنسي مع كافلي الخال “مختار” و هي تقلّب صفحات ( باريس ماتش Paris Match ) الشهيرة و صور الرئيس الفرنسي ( فاليري جيسكارد ديستان) Valéry Giscard d’Estaing (١٩٢٦/٢٠٢٠) في آخر عهدته (١٩٧٤/١٩٨١).. في نهاية السبعينات كانت مهتمة كثيرا بذلك التحقيق الصحفي الخاص، كان الملف يتحدث عن حياة و مسيرة ثالث رئيس فرنسي للجمهورية الخامسة و أصغرها في ذلك الوقت حيث فاز بالرئاسة عن عمر يناهز ال48 سنة تحت راية ( الاتحاد من أجل الديمقراطية الفرنسية) تيار يميني معتدل ، خلفا للرئيس ( Georges Pompidou جورج بومبيدو) .. كان يظهر في صور ذلك الروبورتاج طويل القامة جدا ، أنيق المظهر ، طاغي الكاريزما ، نحيفا نوعا ما و يظهر في التحقيق كمتجوّل في حديقته ذات البساط العشبي الأخضر المهولة مع كلبه المفضّل الأسود ..
“فاليري جيسكارد” هو رجل دولة و مقاوم قديم ضد النازية إبان الحربين العالميتين بينما كانت فرنسا تمارس وحشيتها على الشعب الجزائري .. و هو نائب أوروبي بعد انتهاء عهدته الرئاسية .. رغم المكانة التي كان يُحظى بها إلا أن فضيحة ( ماس أفريقيا الوسطى ) سوّدت عيشته كرئيس لفترة معتبرة ، حيث توصّلت تحقيقات صحفية جادة و احترافية مستقلة من رفع الغطاء و اللبس عن ملف ساخن متعلق بالفساد هو و عائلته باستفادته من قبل ( بوكاسا) رئيس إفريقيا الوسطى بماس معتبر لمّا كان وزيرا للمالية و الاقتصاد قُبيل توليه الرئاسة. و مع ذلك يعتبر شخصية جد محترمة فكريا أيضا كونه أُختير في بداية الألفية الحالية (٢٠٠٣) كعضو الهيئة الفاخرة الذائعة السمعة المعروفة دوليا ب( الأكاديمية الفرنسية ) Académie Française..و احتلّ المقعد البريستيجي الشرفي للأكاديمية رقم ١٦.
هذا الرمز المؤسساتي الفرنسي المختص في علوم اللغة تأسس في القرن السابع عشر و هدفه بحثي أكاديمي يعني بترقية الآداب و اللغة و العمل على إشاعتها بشكل أوسع عبر العالم … فليس عبثا أن يُختار ( فاليري جيسكارد) من قبل ناخبي هذه الأكاديمية كعضو فيها ، فهو رجل مثقف و كاتب و مفكر خاصة في الأمور السياسية و الاقتصادية و له عدة مؤلفات ك: السلطة و الحياة / الديمقراطية الفرنسية بثلاث أجزائها/ و أهم الأعمال التي كتبها و أثارت جدلا أدبيًا و سياسيا تجاوز ( المانش) عمله الروائي المُستفز ( الأميرة و الرّئيس) La princesse et le Président
الصّادر عام 2009 حيث أقحم ( فاليري) كراوي شخصية ( الأميرة ديانا ) في روايته العشقية و أعطى لنفسه دور البطل العاشق و جال في الرواية بكل ما أوتيَ من رَوْي و تداعيات سردية أحرج بلاد ( البينغهام Bingham) …و أسال حبر كل الجهات النقدية و الأدبية و الإعلامية في فرنسا و انزعاج و امتعاض كبيرين في بريطانيا. اعتبرها معظم النقاد بالسقطة الفكرية …
كان فاليري مثيرا للجدل أيضا فيما يخص حياته الخاصة و يشاع عنه بأنه -دونخواني- أو ما شابه ذلك .. يحب مطاردة الحريم و لا يتحكم في نزعته الغزلية كلما أُتيحت الفرص ، لقد أتعب بسلوكه السيدة الفرنسية الأولى أنداك. كانت Anne-Aymone ” آن أيمون ” تتحرّج كثيرا بسبب مغامراته (التّنّورية) خاصة لمّا تتسرب حكاية من حكاويه المتعلقة بالعلاقات السرية إلى الرأي العام .. يسمون هنا في فرنسا هذا الصنف من السلوك الرجّالي ب( عدّاء التنورات coureur de jupons ) أي زير نساء…هو شخصية لا يمكن حصرها في إطار معيّن ، و قيل أنه لم ينل حظه من المجد الكافي كبعض السياسيين الفرنسيين الخالدين .. هو صاحب سيرة مكتوبة :
( الطموحات المُخَيَّبة )
Les ambitions déçues
كما هو موثق في كتاب مشهور للكاتب ( متياس برنار ).
كان ل ” فاليري جيسكارد ” الفضل و الدور الرّئيس في بعث اقتراح مشروع ( الدستور ) المشترك بين دول الاتحاد الأوروبي … هو سياسي يميني معتدل ..
-من أيّ كيان أنتَ؟ يباغتني بالسؤال في بهو قاعة الاحتفالات الرسمية لعمدة باريس ، كانت القاعة التاريخية تعجّ بالضيوف من كل الأطياف من عمدات ملاحق بلديات الضواحي و المقاطعات التابعة و سياسيين و بعض النّواب و الإعلاميين وحده الديكور الخاص و الموائد و الستائر و الشراشف ذات الطابع الأمبراطوري الملكي بهذه القاعة يُنسيك ما جئت إليه و ما دعوت بسببه ..
سؤاله جاء عقبَ مصافحته لي بلباقة ورقي و أنا أنظر إليه بتفاجؤ و بشيء من الربكة .. كنتُ أرفع رأسي قليلا لأنظر إلى وجهه .. كان يحمل كأس النبيذ الأحمر بيده الشمال ، لم أكن أتوقع أني سألتقي به صدفة في هذا المكان و في هذا اليوم التدشيني لانطلاق مداولات الإعلان عن مشروع ( باريس الكبرى التوسّعي الحضري )، كانت باريس صغيرة و لما سكنتها ( كَبُرت !)..، كان ذلك قبيل نهاية الألفية الفارطة .. لقد تلقيت الدعوة كالعادة من قبل القسم الإعلامي التابع لعمدة باريس القاضي و السياسي المعروف Jean Tiberi
” جون تبيري ” و هو يميني من حزب ال RPR التجمع -اليميني -لأجل الجمهورية و هو حزب دوغولي …
و يُعدّ “تبيري” من أشهر السياسين الفرنسين المرتبط اسمه بفضائح اختلاسات و فساد عظيم لما كان على رأس باريس (عاصمة فرنسا) و هو مُدان قضائيا لأكثر من مرة..
– حضرتُ وقتها هذه المناسبة كمدعو بصفتي إعلامي و كأمين عام للصحفيين الأفارقة (طبعا .. في المنفى!). هنا في هذا البلد لا يريدون من الأفارقة أن يأتوا إليهم بعقل مستقل و بفكر ناضج و سليم و واعٍ ،هم يفضلون من يلجأ إليهم ببطنه و فرجه؛ لهذا قاومت منظمتنا الحصار و الخناق السياسي حتى اندثرت !
أجبتُ السّيد “جيسكارد” عن سؤاله الفضولي عن هوية ( الكيان ) الإعلامي الذي كنتُ أمثله … كنت أنظر إليه و ذلك الجَبّار والذي يجتاح تفكيري بشكلٍ عجيب .. كنت أحملق في شكل و قامة “فاليري جيسكارد ” و أنا أقول في نفسي : يا الله الرجل تجاوز السبعين و يكبر والدي بفارق 15 عاما لكنه يبدو يافعا متماسكا ، نشطا، بل ما زال يجري وراء التنورات ، لو يحضر والدي اللحظة إلى جانبه سيبدو “جيسكارد” أصغرا بكثير من والدي و ليس العكس .. والدي الذي كان يحدثني عن مشيخه و اقتراب أجله في مستهل أربعينياته.. وقوفي و لقائي بثالث رئيس الجمهورية الخامسة لم يبدد حضور ذلك الجبار والدي … يبقى والدي ” الرّئيس” في معادلة حياتي الشائكة …
يا والدي .. هل تدري مع من أنا واقف في بهو أفخر و أفخم قاعات باريس ؟! ليتك تدري يا والدي ! أنّي كبرتُ كثيرا و باريس تكبر معي أيضا ، كبرتُ كثيرا يا والدي ! كبرتُ في رحلة طالت طويلا ، رحلة تبدو مستحيلة العودة منها .. كبرتُ يا والدي و أنت تقدّمت في سنك قليلا و إخوتي الذين كنتُ أبدأ بأوعيتهم قبل وعائي .. و و عائي ما نضب أمّا السؤال نعم ! …
و لنْ أقُلْ لهم لا كيل لهم عندي و لا تقربون؛ نكالَ وعائي الذي أخفيتموه ليخلوَ لكم وجه أبيكم.. إنّ ما أعطاني الله من آنية ما يغنيني عن كل إناء و عن كل غرور الأنا.. مازلت أوعيتي توفي بكل نبضها الكيل مع عابري السبيل .. يا إخوتي !
هم كبروا أيضا و ها أنت مازلت حيّا ترزق و الكل أحياء تحت كنفك .. كفن المنافي يا والدي و الإبعاد القسري فظيع يا والدي .. “الأموات تعْلَق وصاياهم عند أقدامهم” .. المُغرّبون قسرا هنا هم فقط شبه الأموات و إن كانوا أحياءً .. لكن اِعلم أن عدم نسيانك في تفاصيل سفري و سكوني و حركتي يَكبر هو أيضا ! كل معدن عند مالكه ثمين ، كالماسة ، و في قلبي (ماسة جبّارة عظيمة لا تُقدّر بثمن ، ماسة الماسات أنتَ ).. كانت ماستي تلألأ بسمرتها بل تتوهّج فخرا و اعتزازا بكَ و أنا منتصب بقامة ذلك البدوي القادم من دوار ( أولاد فاضل من قبيلة بني الخلفة البهلول ) وسط نخبة من سياسي دولة -استعمارية – عظمى .. ماسة جبارة و ثمينة، أنتَ يا والدي ماسة الماسات! هل تدري يا والدي أنا الآن بحضرة … سارق ماس إفريقيا ” حارث الإيليزي ” و القمصان المقدودة من قُبُل و دُبُر ، إنه السيّد جيسكارد ساكن الإليزي الأوّل السابق !…
-و أنا أمامه كدتُ لو لا خجلي الزّائد و حيائي أن أسأله عن مصير الماس الإفريقي الذي سرقه من الأفارقة و كلبه الأسود الذي كان يملكه في بدايات الثمانينات المنشور على صفحات Paris Match التي كانت تتصفحها الخالة نادية !
منتُ دائما أقول في نفسي : كبارهم يسرقون أيضا لكن بمساعدة صغار و محدوي الآفاق من العملاء في قارتنا السمراء الغنية الفقيرة ! ..
**
مات Jugurtha ( يوغرطة) و مات جيسكارد و بقيت ( آن أيمون ) حية ترزق و التنورات بقمصانها في كل مكان لا تعنيها في شيء .. هل كانت السّيدة الفرنسية الأولى سابقا ممتنة ل( كورونا و شراشف تنورتها الوبائية ) التي أزهقت روح عدّاء التنورات عن عمر ال94 عاما ! حتما ما تركه المرحوم من ماس إفريقيا الفقيرة يغنيها عن كل سؤال !.. سؤال بقيَ عالقا في ذهني بعد كل هذه التفاصيل و الجزيئيات من مرحلة حياة و تجربة شخصية عبرت؛ أنّي نسيتُ أن أسأل الرّئيس وقتها عن خلفية تسميته لكلبه الأسود المفضل ب( يوغرطة)!.
ـــــــــــــــــــــــــــ
-*باريس الكبرى جنوبا
٤/١١/٢٣
——————-
*: استعمالات و اصطلاحات خاصة بالكاتب.
*: كَلب: باللهجة العراقية تعني ( قلب).. تنطق القاف (كافاً).
-يوغرطة: Jugurtha / ملك نوميديا ولد سنة 160 ق.م، وتوفي سنة 104 ق.م، قاد أحد أشهر الحروب ضد الجمهورية الرومانية
-كاتدرائية ( سان -سبير)ـ كورباي إيسون ـ La cathédrale Saint-Spire- Corbeil-Essonnes
*الزونبي/ /zombie /zombi/
جثة متحركة.
cadavre animé