قصّة (وئام) ..مِن قصص مجموعتي خارج المدار…هدى الجلاب

منبر العراق الحر :
أفكار مُتضاربة تعبر رأسي
و تشتبك داخل تلافيف مُتشربكة و يتسطر ذهني المشغول ألف موال ..
أفتشُ بين أزقة دمشقيّة ضيقة تتنفس صخباً عن معنى
لما يحدث من فوضى،
أرى على الطريق بُنيّة صغيرة تمشي وحيدة بيدها علم جميل تلوح به و تقول بحزم يحتاجه بعض كبار:
الله سورية، سورية و بس.
كأنّ دمها يجري بردى و سلاماً داخل عروقي،
أمعنُ النظر في ملامح وجهها ورُبا عينيها الصغيرتين،
في شَعرها المبعثر بحريّة على عظام كتفين نحيلتين.
أبتسمُ بودّ، أمسح شعرها بكفِّ يد راغبة بالمزيد من مدّ الحنان، تقف مثل ألف،
ترمقني ساكتة و على فمها أعذب ابتسامة
صادفتها منذ زمن.
تمنيت أن أحملها كي ننادي معاً
فتسبقني والدتها في النداء: – تعالي يا وئام
تدخل بيتاً بسيط الجدار. أتركها في حفظ الله و أتابع سيري.
تقول دواخلي: كم تشبهني تلك الفتاة؟
عند الشارع العام أشير إلى سيارة أجرة. أصعد الكرسي الخلفية فيوجه السائق العجوز عنق المرآة بخبث كي يرى تفاصيل وجهي بوضوح أكثر.
مِن السخف أن أنزل، هلْ سيأكل منّي قطعة؟
سأضربه بمحفظتي إنْ بدر منه سوء.
يمشي ببطء، بعصبية أستعجله: أسرع أرجوك
أنا على عَجلة من أمري.
يردّ ببلادة بصوت مبحوح: راح تطير الدنيا ما وراءك؟
أجيب بقصد جرحه على غير سلوكي المُعتاد:
– عادة لا ألتفت إلى الوراء، أنظر دائماً إلى الأمام و
الآن أرى حائطاً عتيقاً من الإسمنت المُسلح ..
يضحك بسذاجة كأنّه سمع طرفة حمصية ظريفة.
أتجاهله.
أدير وجهي نحو زجاج النافذة،
أرقبُ إسفلت طريق بدورها تترقب بحذر شغباً مُفاجئاَ
يأتي ويعكر مزاجها
في هذا اليوم الهارب مِن بين رصاص دموي.
لحظة تمرّ بمضض وأشعر كيف الخطأ لبسني جلباباً أسود حين كرهت هذا المسكين الذي ما إن وقع نظره على الحاجز
و أكياس الرمل المُكدّسة قال مُتمنياً:
– الله يحمي بلادنا من كلّ أذى يا بنتي، الله يحببنا ببعض يا بنت الحلال.
يقف عند الإشارة فيلتفت نحوي و ينظر دواخل عينيّ بحنيّة: أنا مواطن سوري مسيحي، لكن واسم الله كلّنا أخوة في الله.
يتنهد: لا داعِ لكلّ هذه الفوضى.
يعودُ إلى أرضِ مُخيلتي حماس الطفلة وئام،
فأسأل رأسي المشغولة: ما بال إيقاعها العذب
يرنّ في دهاليز أذنيّ؟ المسافة التي فرقتنا ما استطاعت إبعادها قيد أنمُلة.
أسمعُ كلماتها بوضوح و أنا أترجلُ من باب السيارة الصفراء.
أرغبُ الرجوع إليها لكن نداء يجذبني، أحارُ برهة ثمّ أتابع صوبَ النداء الصعب الرجوع،
حيث جنّتي تحت أقدامها.
تفتح أمّي الباب. تقول مُبتهجة: ادخلي عندنا زوّار، قرأنا بسملة أنا وجاراتي لأجلِ الشام الله يحميها.
أحاول التملص فتشدّني من يدي فألج مُجبرة.
تستعجلني: تعالي بسرعة قبل أنْ تبرد الفريكة الحموية.
أعلمُ أنّه لا مجال للهرب و الفريكة.
أضع ابتسامة كبيرة على فمي قدر المُستطاع
كي تراني أمّي بأحسن حال.
تجلسُ والدتي مرتاحة وسط جاراتها ..
نساء مِن جميع الطوائف، إحداهن حسب معلوماتي مسيحية زوجها مُسلم، يجلسن بأريحية و حميمية تحت سقف واحد على مائدة واحدة يأكلن من منسف واحد.
مُجسّداً أمامي و بأوضح صورة أرى ملامح الوئام.
.. هُدى الجلاّب ..

اترك رد