منبر العراق الحر :
يعتمد مسلسل “العتاولة” على البطولة الجماعية وتوزيع الأدوار بعدالة، لكنه في الحقيقة يقدّم سيرة البطل الشعبي، وهذا نمط شديد الجاذبية والجماهيرية، يتجلّى في أعمال مثل “سعد اليتيم” و”علي الزيبق” و”مارد الجبل” وصولًا إلى “جعفر العمدة”. ففي كل موسم تشهد دراما رمضان مجموعة مسلسلات تتمحور حول هروب وصعود وانتقام البطل الشعبي وعودته المظفرة إلى الحارة، بكل حمولته من القوة والذكورة. سواءً تمّ استلهامه من وقائع تاريخية أو أساطير أو قصص شعبية أو تمّ نحته من روايات وأفلام سابقة.
نصار فتيحة
بطل “العتاولة” الرئيس هو “نصار فتيحة” (أحمد السقا) لأنّه أولًا الشخصية المحورية التي تلتقي عندها جميع الشخصيات، وثانيًا هو الوحيد الذي يتعرّض على مدار الحلقات لاختبار لإثبات جدارته بالبطولة وتصدّر المشهد.
إذا حاولنا تقديم ملخّص ما جرى لنصار ـ يتضمن حرقًا للأحداث ـ فالقصة تبدأ من لحظة الإعداد لزواج أخته شادية (مريم الجندي)، ثم يتورط نصار مع أخيه خضر (طارق لطفي) في سرقة تمثال أثري من فيلا غريم الأخوين عيسى الوزان (باسم سمرة).
تسعى جهات كثيرة للحصول على التمثال، وتلك الحكاية الإطار أو اللغز الذي يؤطر الحلقات كلها حتى النهاية، ويحفّز كل الصراعات الجانبية.
شيئًا فشيئًا نكتشف أنّ نصار مرتبط عاطفيًا بابنه الصغير “فارس”، وأنّ طليقته “عائشة” (مي كساب) ترغب في العودة إليه بأي ثمن. لكنه أثناء سرقة التمثال يلتقي بفتاة تروق له هي “حنة” (زينة).
يفكر نصار في التوبة والزواج من “حنة”، لكن شقيقه خضر يحاول إقناعه في الاستمرار في طريق الحرام.
عند تلك النقطة يصبح نصار مطاردًا مطاردة مزدوجة، أولًا من أخيه وأمه سترة العترة (فريدة سيف النصر) كي لا يترك مهنته في فتح الخزائن التي تدرّ عليه المال الوفير. وثانيًا من صاحب التمثال عيسى الوزن وعصابات أخرى.
يحاول خضر العثور على التمثال، وعندما يفشل يحرق شقة أخيه نصار وتكاد النيران أن تحرق ابنه “فارس”، ثم لاحقًا تخبره “عائشة” أنّ التحاليل الطبية أثبتت أنّ “فارس” ليس ابنه، لتبدأ رحلة بحث عن ابنها الحقيقي واسمه “مالك” يعيش مع أبوين ثريين. ويتحول هذا الخط إلى مأساة حين يُصاب “مالك” في حادث، ويُنقل في حالة حرجة إلى المستشفى، وهناك يرشي الوزان ممرضة صديقة عائشة، لقتل مالك. كي يحرق قلب نصار على ابنه الحقيقي إضافة إلى أن خسر “فارس” الذي ارتبط به عاطفيًا بعدما أخذه أبواه الحقيقيان.
أثناء محاولة العثور على التمثال يعتدي خضر على حنة، ثم يُلفّق لها محضر دعارة بمعاونة صديقته “ديحة” (نهى عابدين)، وبرغم ذلك تنجح في الزواج من نصار، ويفتتحان مطعمًا صغيرًا، لكنّ المطعم يتعرّض للحرق.
بعدها يحاصر الوزان حنة ويهدّدها، ويعرف أنّها حاولت قتل فرج ـ أحد رجال الوزان ـ الذي تحرّش بها، ويسجّل الوزان على هاتفه اعتراف حنة بأنّها حاولت قتل فرج فعلًا، وهنا يحاول نصار أن يخفيها عن العيون وسرقة هاتف الوزان.
حين تصبح حنة على وشك الولادة تسرقها عصابة هندية (صفوة) للضغط على نصار لاستعادة التمثال، وعند هروبها توشك أن تجهض جنينها ويصبح طفل نصار الثالث في خطر!
أمّا شادية (أخت نصار) فهي فتاة بسيطة مطيعة لأسرتها، لكنها تقيم علاقة مع شاب بلطجي يدعى سعد (مؤمن نور)، يكتب عليها بعقد عرفي يبتزها به، حتى بعد تزويجها من شاب آخر هو عاطف الألفطي (مصطفى أبو سريع)، ومع تكرار ابتزاز شادية وتهديدها تحاول الانتحار بحرق نفسها. ثم يتضح أنّ زوجها عاطف متواطئ مع سعد في ابتزازها بتعليمات من الوزان الذي يجبره في النهاية على تطليقها وحرق قلبها لمجرد أنّها أخت نصار فتيحة.
لا يجد نصار وسط رحلة الألم تلك مصدر أمان واحتواء له إلّا عمه خميس فتيحة (صلاح عبد الله) الذي يعيش في بيت بسيط أقرب إلى الكوخ، ويقضي وقته في صيد السمك. ومع تعقيدات الصراع تعترف سترة العترة لنصار أنّه ليس ابنها وأنّ خضر ليس شقيقه، وأنّ أباه الحقيقي هو عمه خميس أنجبه من امرأة أجنبية مجهولة.
يذهب نصار سريعًا لرؤية أبيه الحقيقي لكن عائشة تكون قد سبقته وقتلته بحقنة، لأنّها تعرف أنّه والد نصار الذي ترغب في الانتقام منه لأنّه تزوج حنة وتسبب بعناده في قتل ابنها الوحيد ولأنّ خميس لم يساعدها في العودة إلى نصار.
وهكذا اكتشف نصار أنّ أمه ليست أمه، وشقيقه ليس شقيقه، وعمّه هو أبوه، وابنه الذي رباه ليس هو ابنه الذي أنجبه، وطليقته قتلت والده الحقيقي، وحبيبته قتلت زوج أمها، وشقيقه حاول حرق بيته وقتل ابنه، وهندية كادت تتسبب في إجهاض حبيبته، وابنه الذي أحبه ورباه أخذ منه ولم يعد ابنه، وأقرب الناس إليه تآمروا ضدّه مع ألدّ خصومه! هل ثمة بطل شعبي آخر مرّ بكل تلك الفخاخ؟

من كل فيلم ثيمة
ثمة من اعتبر المسلسل اقتباسًا من أعمال شهيرة لعادل إمام مثل “المشبوه” و”حب في الزنزانة” و”أحلام الفتي الطائر”، وإن كانت حقيبة النقود المخفية تحولت إلى تمثال أثري. ولا شك أنّ إمام أكثر ممثل استعاد مرارًا قصة البطل الشعبي ورحلات الصعود والانتقام في أفلامه ومسلسلاته، وبتنويعات مختلفة تمزج بين الضحك والمآسي.
ربما يكون “العتاولة” اقتبس ثيمات مختلفة من أفلام عادل إمام، ومن قصص وأفلام أخرى ثم دمج سلسلة حبكات فرعية وشهيرة، بدءًا من الأم القوية المسيطرة على طريقة الدراما الهندية، وكذلك اكتشاف الأخوين أنّهما ليسا أخوين، والعمّ الذي يتضح أنّه الأب، والابن المفقود، وحصار الشر الذي لا يسمح له بالتوبة، والصراع المافياوي المحتدم مع البطل المضاد (عيسى الوزان) بكل ما يتطلبه من معارك بالسيوف والمسدسات والتعذيب والوشاية والمؤامرة ونصب الفخاخ والقتل والسرقة والكذب والدعارة والنصب والاحتيال، بالتعاون مع شخصيات كثيرة أهمها السبتي (أحمد كشك) الواشي الوضيع والطموح أيضًا، ودينا اللعوب (هدى الأتربي) الموظفة في فندق الوزان، وفوزي (محمد التاجي) والد عائشة المتصابي المتعلق عاطفيًا بدينا، والبُني (أحمد عبد اللاه).
وفّر المسلسل كل التوابل والمشهيات والصراعات و”الأفيهات” والدموع الغزيرة والخيانات، لتقديم دراما مصرية بنكهة هندية. فليس المهمّ المنطق، بل الإثارة وحبس الأنفاس مع توالي الاكتشافات والخدع والجرائم.
ليس المهم طرح أسئلة منطقية من عينة: لماذا يلجأ شاب ثري جدًا إلى مستشفى ولادة فقير ليتبدّل طفله مع طفل بلطجي؟ ولماذا يصرّ نصار على الاحتفاظ بالتمثال الذي جلب له حرق بيته وقتل ابنه برغم أنّه قرّر أن يتوب؟ ولماذا تضع سترة لدى جارتها نجاة (ميمي جمال) حقيبة مليئة بسبائك الذهب برغم أنّها متزوجة من شاب ردّ سجون؟ ولماذا يطيع معظم الأشخاص الوزان إلى درجة التورط في جرائم قتل؟
لا يمكن مقاربة المسلسل بأي منطق عقلاني، ولا درامي، وإنما بالاشتغال على هواجس وغرائز وأمنيات وخيالات الجمهور، وهو يرى استعراض القوة والجرائم والثراء والنساء الجميلات في لعبة متأرجحة بين جميع الأطراف. فمؤلف المسلسل هشام هلال وبمعاونة ورشة من محمود شكري وحسام حلمي، ذاكروا جيدًا سينما المافيا وأكشن عادل إمام العاطفي خفيف الظل، والثيمات الهندية الميلودرامية، وقدّموا دراما تجمع بين حدّين متناقضين: قمة الهزل وإطلاق الإفيهات، وقمة القتل والجرائم والإثارة والدموع، بما يضمن ألّا يتريث المتفرج لحظة واحدة كي يطرح على نفسه أي سؤال منطقي؟

اقتباس الموسيقى
قدّم المخرج أحمد خالد موسى رؤية بصرية ممتعة تستثمر في معالم مدينة الإسكندرية مثل قلعة قايتباي والبحر والشاطئ والحارة الشعبية، ولم يهمل التكوين وملابس الشخصيات والألوان، إضافة إلى الشريط الموسيقي المصاحب والثري جدًا ما بين أغنيات شعبية ومهرجانات مثل مهرجان العتاولة وقنبلة الجيل، ومواويل عبده الإسكندراني وصولًا إلى أغاني أم كلثوم. واعتمد مؤلف الموسيقى التصويرية ساري هاني على موتيفة أساسية تتكرّر باستمرار، وهي من أجمل تترات مسلسلات هذا الموسم، برغم ما قيل عن اقتباسها من موسيقى مسلسل “طهران”!
ويُحسب للمخرج أنّه لم يكتف بمشاركة نجوم مميزين، ولا بكل مشهيات الحدوتة، وإنما كان هناك اهتمام واضح برسم الشخصيات وجعلها جذابة في لحظات دموعها وطرائفها ورغباتها ومخاوفها، وجاء تسكين الأدوار وفق اختيارات دقيقة، صحيح أنّ السقا لم يقدّم أكثر مما هو معتاد منه في تلك النوعية من الأدوار، لكن كان هناك تميّز خاص لطارق لطفي في دور مغاير كليًا، وكذلك فريدة سيف النصر، ومصطفى أبو سريع ومريم الجندي، وأحمد كشك، دون التقليل من بقية الشخصيات، لكن يظل حضور باسم سمرة طاغيًا في شخصية “عيسى الوزان” التي تصدّرت “الترند والسوشيل ميديا”، لأنّه نحت شخصية بعيدة من التصور التقليدي لزعيم مافيا، فهو رجل عاطفي يضعف أمام حضور “عائشة” ويبكي أثناء زيارة قبر أخته، ويرطن بكلمات أجنبية بطريقته الهزلية الخاصة، ويعيد ترجمة المواقف وسلوك الشخصيات وفق مبدأ المختصر المفيد في “أفيه” لاذع. كما يرتدي ملابس مبهرجة مع النظّارة الكبيرة وتسريحة الشعر، وفي أحلك اللحظات لا تخلو تعليقاته من تعبيرات هزلية ساخرة، خصوصًا لزمة “يلا بنا” و”باي من غير سلام”.
بصفة عامة، جاء أداء الممثلين متناغمًا، وسمح للجميع بالتألق عبر رؤية إخراجية مجتهدة أضفت على هذه الدراما الشعبية سحرًا خاصًا برغم افتقارها للمنطق. ولو تأملنا أسماء الشخصيات الرئيسة: سترة العترة، خضر فتيحة، نصار فتيحة، وعيسى الوزان.. ستبدو كأنّها خرجت من رواية لنجيب محفوظ، مع ما تتمتع به من قوة وصراع وجودي ومأساوي.
الفارق أنّ محفوظ كاتب الحارة المصرية الأعظم، منح شخصياته إلهامًا روحيًا وأسئلة فلسفية عميقة وشيّد أبنية سردية محكمة، بينما “العتاولة” قدّم توليفة هزلية خفيفة، قوامها تدفق الحكي واستثارة غريزة الفرجة بكل الألعاب الدرامية الممكنة.
شريف صالح