مكافحة ” البغاء “هل تأتي بالعقوبات فقط ؟ فلاح المشعل

منبر العراق الحر :
صوّتَ مجلس النواب العراقي على تشريع قانون مكافحة البغاء، تضمنت مواده عقوبات شديدة على من يمارس البغاء أو يشجع عليه، بعضها تصل إلى السجن لأكثر من عشر سنوات مع غرامات مالية على مرتكب هذا “الجرم ” !؟
يبدو أن انتشار ظاهرة البغاء قد دفعت برلمان العراق لإصدار هكذا تشريع قانوني (معدل) يقوم على الإجراء العقابي المتشدد ، وهو تعديل على القانون الأول، دون دراسة هذه الظاهرة الاجتماعية _ الاقتصادية بعناية، وتفكيك أسبابها وعوامل تفعيلها في المجتمع العراقي، ظاهرة البغاء كانت خامدة عراقياً ومحدودة النطاق، حتى دخل العراق في دوامة الحروب والحصار وملايين القتلى من الرجال الذين تركوا عوائلهم ونسائهم بلا حماية عائلية واخلاقية واقتصادية، فعادت لتتفشى على نطاق أوسع مما كانت ،سيما وأن البلاد ما إن تخرج من حرب حتى تدخل في حرب أخرى أشد فتكاً من الأولى .
عام 1998 تحت عبارة ” فلتقطع الرؤوس العفنة ” التي كتبها الدكتاتور صدام حسين بعد اطلاعه على تقرير يتحدث عن انتشار ظاهرة البغاء، تم ذبح أربعين إمرأة ورجل بتهمة البغاء و”القوادة” أي السمسرة، نفذتها ميليشيا “فدائيو صدام” التابعة لولده عدي صدام حسين داخل مقرات حزب البعث، فوضعت جثث الضحايا داخل أكياس القمامة وفوقها رؤوسهم ووضعت أمام بيوتهم، واقعة هزت المجتمع العراقي بالصمت المرعب والتذمر لبشاعة الإجراء .
كنا ننتقد صدام حسين لأن مايصدر عنه قائم على غطرسته وإنفعاله ، وما سلسلة الحروب والحصار التي تسبب بها النظام، وما أحدثته من تمزق عائلي وهدم اجتماعي وإخلال بالبنية الأخلاقية والاقتصادية، إلا السبب الرئيس لظهور هذه الظاهرة الشاذة اجتماعياً وانتشارها .
لم يحدث أن تساءل نظام صدام عن الأسباب البنيوية لانتشار ظاهرة الدعارة ودراستها من قبل المختصين، والعمل على معالجتها بأساليب تذهب لقطع الأسباب التي تولد هذه الظاهرة أو غيرها من الظواهر الاجتماعية، وعملا بمنهجه الفاشستي فكر بالانتقام وإنزال عقوبة الموت بالظاهرة التي كان هو السبب الأول والأهم في انتاجها .
مجلس النواب العراقي بتعديلاته الأخيرة لقانون مكافحة البغاء واعتماد أسلوب العقوبات القاسية دون هوامش لإجراءات أو توجيهات إصلاحية ، أحالني إلى ذاكرة استعادية لوقائع جرائم إرهابية ارتكبها نظام صدام الدكتاتوري دون معالجتها وقراءة دوافعها الواقعية، ماجعلها أي تلك الظواهر الشاذة تنتشر على نحو أوسع مما كان، وتتحرك بمنظومات سرّية أو أغطية شرعية احتيالية وماشابه ذلك .
اعتماد مبدأ توجيه العقوبة لمن تمارس البغاء ومجتمع الدعارة بصورة عامة، واستثناء الأسباب التي تنتجها أو تشجع عليها، كالإغراء المالي والاستغلال الوظيفي والنصب والاحتيال الذي يمارسه المجتمع الذكوري ونظرته المتخلفة بكون المرأة لاتتعدى وظيفة منح المتعة للرجل، من هنا تصبح معالجة غير متوازنة ولم تمنع ظاهرة البغاء، بل سوف تتعايش مع تلك العقوبات بطرق احتياليه وإلتفافية .
إن الفساد الأخلاقي الذي ينتشر في الأوساط السياسية وبين المسؤولين وحواشيهم وسرقة المال العام، أنتج طبقة من الطفيليين بثرائهم الفاحش، الذي استجلب العديد من ذوات النفوس الضعيفة من النساء اللواتي يفتقدن للتحصين المعيشي والثقافي والأخلاقي، ليسقطن في إغراءات ومظاهر هذا المجتمع وعوالمه السرية، يجذبهن الإغراءات المدهشة من سيارات حديثة غالية الثمن وشقق فاخرة وهدايا من ذهب وألماس وسفرات إلى دبي وتركيا ولبنان، وبوجود بعض كبار الضباط المشتركين في هذه الشبكات كحماية وغطاء سلطوي لهن، شجع على انتشار ظاهرة البغاء في العقدين الأخيرين، بل أصبحت جزءا من مجتمع الفساد المتغول اجتماعيا ً، والمنطوي على سلوكيات تنمّر وتسلط درجت عليها بعض الفئات من البغايا اللاتي صرن يظهرن في الشارع العام ويتحدين رجل المرور أو ضابط الشرطة .
كان حرياً بالتشريع العراقي أن يذهب نحو أسس الظاهرة ويعمل على مكافحتها، وليس إسقاط عقوبات على الطرف الأضعف بالمعادلة وهي البغي أو القواد، لأن الأثنين ضحايا مجتمع ونظام !؟
العقوبة المشددة لاتتكفل بإزالة الظاهرة، بل من يتكفل بمعالجتها عليه بتفكيك عواملها الاقتصادية وضبط السلوك المجتمعي، وهنا ينبغي أن لاتُعطى المهمة لرجل القضاء وحسب، بل اشراك بقية الفواعل التربوية المؤثرة في حملات توعية يتبناها الإعلام والثقافة الاجتماعية والصحية، وإنشاء مراكز توعية بمضار هذه الظاهرة في المناطق التي تعشعش فيها .
أسباب عديدة تقف وراء انتشار البغاء بين الأناث والذكور ومظاهر التخنث والزواج المثلي وغيرها، بعضها سلوكيات منحرفة ناتجة عن اضطرابات اجتماعية وغياب العدالة في توزيع الثروات ومصادر العيش كما أوردنا، وبعضها الآخر يرتبط بتجارة الجنس والرقيق الأبيض الذي عاد إلى العديد من مجتمعات العالم وخصوصاً المتقدمة منها ، تلك مجتمعات تتقبل مثل هذه الظواهر وبعضها تقوم على فكرة شاذة ومجنونة تتلخص بانتخاب المليار الذهبي من البشر ، وإنهاء وجود العائلة وتراتبيتها الأخلاقية والتربوية، مايدفع أنظمتها السياسية والثقافية للترويج لها والتشجيع على انتشارها كظواهر للعصر الحديث، وبما إن المجتمع العراقي غير منفصل عن العالم، بل يتأثر في تلك الظواهر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فإن السبيل الأمثل لمكافحة ظاهرة البغاء أو التخفيف منها لاتأتي بقرارات عقابية قاسية، وإنما بتفهم الظاهرة حسب ظروفها المختلفة ومعالجتها تربوياً إلى جانب قرارات عقابية اصلاحية، وليست انتقامية .

اترك رد