خصوصية المفردة القرآنية و الإستهزاء بالكافرين/8*… بقلم: *د.رعدهادي جبارة*

منبر العراق الحر :

عندما يرسل الله -عز و جل- أنبياءه للناس لهدايتهم يبعث معهم آيات بينات تجعل المخاطَبين يقتنعون بأن يسلكوا طريق الحق والهدى، و هذا من لطفه و كرمه على البشرية . بيد أن الكافرين يتخذون اسلوب العناد و التمرد و العصيان و الاستهزاء بآيات الله جلت عظمته :
*﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يؤۡمِنُونَ ۝٦ وَیۡلࣱ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِیمࣲ ۝٧ یَسۡمَعُ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ تُتۡلَىٰ عَلَیۡهِ ثُمَّ یُصِرُّ مُسۡتَكۡبِرࣰا كَأَن لَّمۡ یَسۡمَعۡهَاۖ فَبَشِّرۡهُ بِعَذَابٍ أَلِیمࣲ ۝٨ وَإِذَا عَلِمَ مِنۡ ءَایَـٰتِنَا شَیۡـًٔا ٱتَّخَذَهَا هُزُوًاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابࣱ مُّهِینࣱ ۝٩﴾*
[ الجاثية: 6-9] وفي مقالنا السابق *(خصوصية المفردة القرآنيةواسلوب الاستهزاء والتهكم /۷)* تكلمنا عن الآية الكريمة *﴿ذُقۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡكَرِیمُ ۝٤٩ ﴾* [سورةالدخان] وذكرنا أن الله -سبحانه- يسخر من المتكبرين والكافرين لأنهم يستحقون ذلك ،ويقابلهم بنفس أسلوبهم .فهم جديرون بذلك،إذ كانت أعمالهم في الدنيا هي التي جعلتهم يواجهون هذا الموقف في الآخرة. يقول عز وجل :
*﴿ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ☆وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ☆ذَٰلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾*
[الجاثية 32 – 35] فمن كان دأبه الاستهزاء بالدين وبالمؤمنين في حياته فماذا يتوقع أن يرى في الآخرة؟!
ومن صور استهزاء الكافرين ما ذكره القرآن :
*(وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَٰذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا )*
[ الفرقان/ 41] ولما كان منهجهم يقوم على الاستخفاف والتهكم والاستهزاء؛
*(وَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَ إِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ )*
[البقرة- 14] ولذلك فإن
*(اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)*
[البقرة15)
جواباً لهم على فعلهم ومقابلةً على صنيعهم .

ومن نافلةالقول إن الانبياء هم أعظم وأشرف ما خلق الله سبحانه وقد اختارهم الله ليقودوا ركب البشرية نحو الهداية و الفلاح والصلاح، بيد أننا نجد من الناس أشخاصاً عصاة متكبرين مصرّين على الغواية والكفر و الاستهزاء بالرسل؛
يقول سبحانه:
*(وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ فِي شِيَعِ ٱلۡأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ (11) كَذَٰلِكَ نَسۡلُكُهُۥ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ (12) لَا يُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَقَدۡ خَلَتۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ (13) وَلَوۡ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَابٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعۡرُجُونَ (14) لَقَالُوٓاْ إِنَّمَا سُكِّرَتۡ أَبۡصَٰرُنَا بَلۡ نَحۡنُ قَوۡمٞ مَّسۡحُورُونَ (15)*
[ الحجر 11 – 15] وصلوا لهذه الدرجة من التهكم والاستهزاء بالرسالة والرسول،لهذا لاجرم ولا غرابة أن نجدهم يلقون الاستهزاء من ربهم على رؤوس الأشهاد يوم يقوم الناس لرب العالمين .
*(فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنۡهُم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ )*
[الأنعام / 10] ولطالما كان المؤمنون يعانون من استهزاء المشركين بالله ورسوله وآياته و بالمؤمنين ؛
*(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ)*
[ البقرة / 212] ولذلك يبين – سبحانه – موقفه منهم فيقول : *{ الله يَسْتَهْزِىءُ بهم}*
وقد حمل بعض العلماء استهزاء الله بهم على الحقيقة وإن لم يكن من أسمائه المستهزئ ، لأن معناه يحتقرهم على وجه شأنه أن يُتعجب منه ، وهذا المعنى غير مستحيل على الله ، فيصح إسناده إليه – تعالى – على وجه الحقيقة .
بينما يرى جمهور العلماء أن الاستهزاء لا ينفكّ عن التلبيس كأن يظهر المستهزئ استحسان الشيء وهو في الواقع غير حسن ، أو يقر المستهزأ به على أمر غير صواب ، و هذا المعنى لا يليق بجلال الله ، فيجب حمل الاستهزاء المسند إليه -تعالى- على معنى يليق بجلاله ، فيحمل على ما يلزم على الاستهزاء من الانتقام و العقوبة والجزاء المقابل لاستهزائهم ، و سمّى ذلك [استهزاء] على سبيل المشاكلة كما في قوله تعالى : *{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }* وهذا دليل على غيرة الله على عباده المؤمنين ، وانتقامه من كل من يستهزئ بهم أو يؤذيهم ،كما يقول محمد سيد طنطاوي في تفسيره “الوسيط“ .
فاستهزاؤه بهم توبيخه إياهم ، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه ، والكفر به؛ عمل يستحقونه. وقال آخرون : هذا وأمثاله على سبيل الجواب ، كقول الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به : أنا الذي خدعتك . ولم تكن منه خديعة ، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه ، قالوا : وكذلك قوله : *{ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين }* [ آل عمران : 54 ] و *{ الله يستهزئ بهم }* على سبيل الجواب ، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء ، و المعنى : أن المكر والهزء حاق بهم .وقال آخرون ، قوله : *{ إنما نحن مستهزئون. الله يستهزئ بهم }* وقوله *{ يخادعون الله وهو خادعهم }* [ النساء : 142 ] ، وقوله *{ فيسخرون منهم سخر الله منهم }* [ التوبة : 79 ] و *{ نسوا الله فنسيهم }* [ التوبة : 67 ]و ما أشبه ذلك ؛ إخبارٌ من الله تعالى أنه يجازيهم جزاء الاستهزاء ، ويعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم و عقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ ، وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى : *{ وجزاء سيئةٍ سيئةً مثلها }* [ الشورى : 40 ] وقوله تعالى : *{ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه }* [ البقرة : 194 ] ، فالأول ظلمٌ ، و الثاني عدلٌ ، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما ،كما يعبّر ابن كثير في تفسيره .
ويخاطب الله (جلت عظمته) أمثال هؤلاء بلغة التقريع و اللوم الشديد قائلاً :
*(قُلْ أَ بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)* ؟؟!!
[ التوبة / 65] وختاما؛ فان الله عز و جل يعبّر عن حالتهم بصيغة رائعة ملفتة للنظر و جديرة بالتأمل :
*﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾*
[ يس: 30] الأمين العام
للمجمع القرآني الدولي

اترك رد