قصتي القصيرة .. ( نفور)…..منى الصراف

منبر العراق الحر :
كانت تلك هي الزيارة الأولى له مع والدته وأخته التي تكبره بعامين وهو ابن السادسة من عمره الغضّ لمكان مقدّس، بعد أنْ جزعت تلك الأمّ من التوسّلات إلى الله في أن ينعم عليها بحياة أكثر رفاهية ولو بحدودها الدنيا، وزوج ما انفكّ يعتلي صهوة حصانه ليقاتل نظاماً دكتاتوراً ما استطاعت قوى الشعب أجمع الخلاص منه، وقد أصبح الآن مزحة ومدعاة للسخرية بفم الناس.
-الله يا أمّي كم هو جميل هذا المكان ورائع.. كاد قلبه يخرج من حنايا صدره الصغير.
كان ل(الصحن) عشرة أبواب لها تسميات محليّة للدلالة عليها، وثلاثة أروقة سقوفها مزيّنة بالآيات القرآنيّة، تتدلّى منها الثريّات الزاهية. تستخدم الأروقة للصلاة حين تضيق قاعة الصلاة في الداخل، أرضيّات من الرخام وسقوف من الزجاج الأبيض بأشكال هندسيّة رائعة، وتطلّ على الرواق الخارجيّ ثلاثة أبواب، واحدة من الذهب واثنتان من الفضّة، كان المكان مهيباً بكلّ تفاصيله للكبار قبل الصغار.
أخذ يركض في الصحن مع أخته كفراشتيْن، ويجوب المكان ذهاباً وإيّاباً وأمّه بدأت تصلّي، استوقف الطفلين رجل بعمامة فوق رأسه ويحمل قطعة قماش خضراء اللون زاهية، قد قُصّتْ بعناية على شكل أشرطة توضع على معصم الزائرين للتبرّك بهذا المكان، غمرهما الفرح حين وضعها في معصميهما، لكنْ سرعان ما ذهبت عنهم تلك الغبطة حين طلب منهما النقود بدلها!، قال له حسن -وهذا كان اسم الطفل الصغير:
-(عمّو).. ماما هنا تتوسّل إلى الله ليكون معنا نقود.. من أين لنا تلك النقود؟!
أجابه بتجهّم:
-عليكم إعطائي النقود بدلها
صرخت البنت الكبرى بأخيها وطلبت منه أن يخلع عنه ذلك السوار، رفض حسن تنفيذ الأمر وقال لها:
– لا.. لن أخلعه فهو جميل حول معصمي
ردّت عليه بغضب:
-اخلعه.. فأنا لا أملك ثمنه ولا حتّى أُمّنا.
انتزعته من يده عنوة ورمتها بوجه الرجل وبطريقة مهينة، غضب منهما وضربهما بالعصا بكلّ قسوة، أخذ حسن يبكي من وقع تلك الضربة على يديه الرقيقتين وهرب باكياً لحضن أمّه وهي مازالت تقيم صلاتها، فالدَّين كبير لله وعليها التسديد طوعاً أو كَرهاً!
كان الموقف يتّسم بالإرهاب لقلب طفل لم يرَ قسوة من أهله يوماً..
غادر المكان مع أمّه وأخته وهو يبكي بألم.
لم يذهب حسن مع والدته مرّة أخرى إلى هذا المكان، كان يرفض توسّلاتها خوفاً من مصادفة هذا الرجل الذي أوسعه ضرباً بعصاه، تلك الضربات التي كان ينالها رأس والدته أيضاً بين الفينة والأخرى لخروج بعض خيوط من شعرها الرماديّ من تحت حجابها.
أصبح المسجد الذي بجوار دارهم يعاني إرهاب من غارات حسن عليه في كلّ يوم جمعة.. يدخل فيه وقت الصلاة ويركل جميع الساجدين بقدمه واحداً واحداً، وهم منتظمون في صفوف أثناء سجودهم لله، ثمّ يأخذ أحذيتهم ويرميها بشكلّ عشوائيّ في باحة المسجد، أو يرمي بعضها خارجه، بعد أنْ تربّصوا به يوماً، ركضوا خلفه للإمساك به، لكنْ من يستطيع الإمساك بالفراشة؟!، ذهبوا إلى بيت أهله مسرعين وقابلوا جدّته وطلبوا منها تعنيفه لكنّها أبت أنْ تعنّفه أمامهم، وبعد أنْ خرجوا طلبت منه وعداً بعدم فعلها مرّة أخرى، وما كان منه إلّا أنْ أعطاها هذا الوعد، ولم يدخل مسجداً طول حياته بعد ذلك.
حسن شابّ وسيم رقيق ذكيّ أبيض البشرة، شعره خيوط شمس ذهبيّة بيوم مشرق غزلته غزلاً من شعاعها. انغمس في الوجود والفلسفة وبين ما هو مرئيّ وغير مرئيّ .
كانت سمّاعة المسجد الذي بجوارهم تزعج أهل الحيّ، بسبب الصوت الجهوريّ البشع لمؤذّنه الجديد، ولم تنفع كلّ التماساتهم لتغيير هذا المؤذّن من قبل شيخ المسجد الذي كان المسجد له بيتاً فارهاً ينعم فيه وأهله، أخبر حسن أصدقاءه أنّ باستطاعته إسكات هذا الرجل والخلاص من صوته، فنفّذ غارته على المسجد وقطع جميع أسلاك تلك السمّاعات وكلّما أعادوا تصليحها عاد هو بقطعها، إلى أنْ تمّ تبديل المؤذّن بآخر ذي صوت شجيّ أدخل الطمأنينة إلى قلوب أهل الحيّ.
تزوّج حسن وأصبح لديه ابنة جميلة تبلغ الآن السادسة من عمرها كما كان عمره حينها، وكلّما تريد زوجته الذهاب إلى هذا المكان المقدّس، يوصلها إلى أحد أبوابه وينتظرها خارجه مع ابنته.
قالت له ذات مرّة:
-لِمَ كلّ هذا العداء لمقدّساتنا حبيبي؟!
– لا يا زوجتي.. ليس عداءً للمقدّس.. لكنّ الثقافة السلوكيّة للطقوس والعبادة والشعائر تتضمّن نظاماً من المعايير الأخلاقية والكهنوتيّة المقيتة.. وتلك المعاير أرفضها.. وإنّ معظم الأديان تنظّم تلك السلوكيّات.. بعضها تركّز على الاعتقاد.. في حين يؤكّد آخرون على أنشطة المجتمع الدينيّة
أجابته بأسى:
-نعم.. إنّها الطاعة العمياء والانقياد دون وعي.. جعل رجال الدين مزحة في أفواه الناس.. فالتغيير قادم لا محالة.. كما كان لذلك الدكتاتور قبلهم
– حقّاً حبيبتي.. حين يحوّل الناس أوجاعهم مزاحاً.. وبعد أنْ تُزال تلك القدسيّة عن بعض رجال الدين الذين باعوا الله بأثمان بخسة لترويج تجارتهم.. –فعلاً-سيكون مصيرهم كما هو مصير ذلك الدكتاتور قبلهم.
طلبت منه ابنته الصغيرة وهي تترجّاه أنْ يدخلا معاً إلى هذا الضريح المقدّس.. رفض في البداية لكنّه استجمع كلّ قوى الكون.. ووضع ذلك الخوف عند أبواب الضريح ودخل مع ابنته وهو يشرح لها قدسيّة الإمام وعظمته التأريخيّة وأسباب قتله في غياهب السجن لسنوات طويلة.. والتأريخ المذلّ لأمّة آثرت الصمت بخنوع في قتل أفضل رجالاتها وأئمّتها وهم يهلّلون للحاكم.. أو يطمرون رؤوسهم في الوحل
نظرت ابنته لرجل بعمامة سوداء وهو يدور في الأروقة، وقفت أمامه مشيرة بأناملها الرقيقة إلى أشرطته الخضراء ولحيته الطويلة البيضاء وهي فرحة وقالت:
-بابا .. بابا.. انظر إليه.. إنّه يشبه (بابا نوئيل) بأشرطة خضراء
ابتسم هذا الرجل بوجهها ومسدّ شعرها بلطف، ووضع أحد تلك الأشرطة حول معصمها.
نظر والدها إليها وشعر أنّ الخوف وظلّه الطويل لم يستطع أنْ يلتهم ابنته كما كان هو ضحيّته.
——————–
من مجموعتي القصصية ( للخوف ظل طويل
منى الصراف

اترك رد