في عرضٍ مبهر على مسرح الدوحة… “جميل بثينة” بعين كركلا المعاصرة

منبر العراق الحر :

كم أشعر بالفخر أنني لبنانيّ. هذا ما قاله شاب لصديقته وهما يخرجان من قاعة مسرح المياسة في الدوحة عقب انتهاء عرض “جميل بثينة” لكركلا. نطق كلماته هذه باللغة الانكليزية، وهي مفارقة تحمل دلالات مهمة. فالمسرح اللبناني العريق “كركلا” مازال قادراً على محاكاةِ شبابٍ هم اليوم أقلّ ارتباطاً بلغتهم وإرثهم وثقافتهم.
كركلا إذا ليست مسرحاً. ولا رقصة. ولا موسيقى. بل هي انتماء. قد يصعب تحميل الفنّ أكثر من دوره الترفيهيّ الجماليّ المعرفيّ. لكنّ الفنّ حين يخترق وجدان المجتمع فإنه يصير جزءاً من هويته الوطنية ووسيلةً للإبقاء على ذاكرته الجماعية.
كركلا فكرةٌ نبتت من بين صخور بعلبك وأعمدتها ثمّ امتدتّ لتغدو حارسةَ التاريخ وراعيته. تحملُ إرثنا اللبنانيّ والعربيّ لتنقله به من جيلٍ الى جيل، ومن منصّةٍ إلى أخرى.
آخر محطات “كركلا” في العاصمة القطرية حيث قدّمت “جميل بثينة” على هامش معرض الدوحة الدولي للكتاب في دورته ال33 (اختتم في 18 الجاري)، تحت إشراف مركز شؤون المسرح التابع لوزارة الثقافة.
تستعيد المسرحية الملحمية الراقصة أجمل قصص الحب الممنوع في التراث العربيّ بين شاعر الغزل جميل بن المعمر وحبيبته بثينة بنت حيان، حكايةٌ تحمل في طيّاتها كلّ المشاعر الانسانية المتناقضة من عشقٍ وغيرةٍ وصبرٍ وولهٍ وتيه…
التزم كركلا بالأمانة التاريخية في سرد الحكاية، فالأحداث تأخذنا وادي القرى (محافظة العلا اليوم حدَّده ياقوت الحموي وادياً بين الشام والمدينة الـمُنَوَّرة)، بدءاً من لقاء جميل وبثينة واشتعال الحبّ بينهما ومنع زواجهما، ثمّ مغادرته القبيلة، وفقاً لطلب والده، وصولا الى بلاد الشام حيث استضافه بلاط الخليفة عبدالملك بن مروان ليجتمع بالثالوث الشعريّ الأمويّ الأشهر (جرير، الفرزدق، الأَخطل).
رُغم ترحيب الخليفة به، لم يبقَ جميل في البلاط، فهامَ من جديدٍ حتى بلغ مصر وبقي حبّ بثينة مشتعلاً في قلبه حتى مات فيها وهو في أوّل الأربعين تقريباً. هكذا ظلّت بثينة مُلهمته وسيدّة قلبه وشِعره الى أن صار اسمها كنيته وبات يُعرف ب”جميل بثينة”. ومما كتبه لها: “أبلغ بثينـة أني لست ناسيهـا/ ما عشت حتى تجيب النّفس داعيها/ بانت فلا القلب يسلو من تذكّرها/ يوما ولا نحن في أمـر نلاقيهـا”.
العودةُ إلى التاريخ تيمةٌ أساسية في مسرح كركلا. لكنها عودةٌ دائمة التجدّد والتطوّر. تُحرّض على الاكتشاف لا التقليد. المعلّم عبدالحليم كركلا مثقف موسوعيّ، يتعامل مع التراث كمادة غير جامدة، تحتمل قراءات متكررة، وفي حاجةٍ دائمة الى قارئ حديث يأخذ من الماضي ويُضيف اليه.
هذا المفهوم أخذه الإبن عن أبيه. إيڤان كركلَّا- مخرج المسرحية- وازَنَ بين السرد التاريخيّ وبين رؤُيته الحداثية، فاستخدم تقنيات عصرية ساقت المشاهد في رحلةٍ زمكانية، أدخلته في أمكنةٍ مختلفةٍ وعصورٍ بعيدة من دون أي تعقيدات بصرية أو دلالية.
جاءت الشاشة الضخمة في خلفية المسرح لتعطي حيوية وديناميكية وواقعية الى القصة. يشعر المتفرّج لوهلة أنه دخل الصحراء وركب الجمل وشاهد السراب من دون أن ينفصل عن بديع ما صاغته الكوريغرافيا على المسرح ( تصميم أليسار كركلَّا).
القصة لم تُسرد فقط بكلام الممثلين وأصوات المغنين، لكنّها رُويت أيضا بأجساد الراقصين الذين حوّلوا المعاني إلى لوحاتٍ ديناميكية سحرت عيون المتفرجين وزادت تفاعلهم مع العرض.
هذه المشهدية المتكاملة بين رقصاتٍ مُتقنة وأزياء مبهجة وإضاءات مبهرة هي التي ساقت كركلا، الفرقة اللبنانية المحلية، الى مسارح العالم على امتداد نصف قرن وأكثر.
قصة جميل بثينة جاءت على لسان راوٍ من الحاضر (غابرييل يمين)، يُعرّف طلاب وطالبات على واحدة من أساطير العشق في التراث العربي. هذا الانتقال بين الماضي والحاضر سمح للعرض أن ينوّع في مشهديته ولوحاته ليجد المشاهد نفسه، بعد ختام قصة جميل وبقينة، أمام فصلٍ من الحاضر تتخلله أغنيات ورقصات لبنانية- بعلبكية، مع مرور فردي متميز، كما العادة- لعمر كركلا.
ومن نجوم المسرحية كانت هدى حداد (والدة بثينة) التي أعادتنا بصوتها الى الحقبة الأجمل من تاريخ الاغنية اللبنانية، التي صفّق لها جمهور الدوحة بحماسةٍ كبيرة ووقف لها بعد ختام العرض تحيةً لشخصها وفنها ومسيرتها الرائعة، خصوصا مع الأخوين الرحباني وشقيقتها فيروز.
أقيمت مسرحية جميل بثينة على مسرح المياسة في مركز قطر الوطني للمؤتمرات، على أمستين، شارك فيها نجوم المسرح الغنائي اللبناني مثل هدى حداد، جوزيف عازار، محمد حجيج، ومعهما القطريان خالد ربيعة، مشعل الدوسري.
“جميل وبثينة” مسرحية غنائية راقصة عن الحب والشعر والعادات والتقاليد. هي جزء من تراثٍ ينهل منه مسرح كركلا إبداعاته كي يبني جسراً موصولاً بين تاريخنا وراهننا، ايماناً منهم بأنّ التطور لا يتحقّق بفقدان الهوية والأصالة.
المصدر: الدوحة- النهار العربي
مايا الحاج

اترك رد