منبر العراق الحر :
كيف يستطيع الهرب؟ وأين سيلوذ عن عيون زوجته التي تلاحقه في كل زوايا الدار ؟ في عينيها ألف سؤال وسؤال ، وليس في يديه ما يجيبها عليه ولا في جيوبه المثقوبة ما يرفع علامات الاستفهام التي تلاحقه في كل آن ، أسئلة محيرة ، بطون أطفاله الثلاثة خاوية ، أجسادهم عارية ، وليس هناك من قميص ولا بنطال ، ولا حتى سَمَل فستان بال ، يستر ما بدا من معالم أنوثة ابنته التي بلغت وبانت عليها الحال بعد أن تجاوزت الثلاثة عشر عاما ، لم يبقَ في بيته من أثاث يبيعه في السوق كي يشتري بثمنه خبزا فالصبر على ما يصيب الإنسان من بلاء مقدورٌ عليه إلا الجوع وما أدراك ما الجوع ، صاحب البيت الذي يسكنه هدّده كثيرا بمغادرته لعدم قدرته على دفع إيجاره بعد أن عفيَ عنه بالتنازل عن أجور ثلاثة أشهر متتالية ، هم بالخروج على غير هدى ، سحب قميصا له معلق برأس مسمار على حائط غرفة نومه ، جاء بيده القميص بلا ياقة بقيت معلقة على ذلك المسمار ، سنين عجاف بذلِّ حصار ، يحسبونه انتصار ، وقد غاب فيه عن ليله النهار ، لابد أن يدفع شعبٌ بكامله ثمن تهور نظام لم يسلم منه صديق ولا جار إلا واعتدى عليه في وضح النهار .
خرج ماشيا يتعثر بقدمه الطريق ، لم يتحسس الحصى التي تهاجم باطن قدمه ، فنعله المتآكل ملَّ من الترقيع ، ولم يكترث للحياء في زمن اللا حياء ، استوقفه صوت من خلفه كان ينادي باسمه ، وما أن التفت إليه حتى مدَّ ذراعيه ليعانق صديقا فارقه منذ زمن ، استطاع هذا الصديق أن يسافر إلى دولة الأردن كي يشتغل هناك بدراهم معدودات وقد عاد إلى مدينته يشده الحنين ، فللغربة وجع وانين ، وجراحات لا تستكين ، وما أن تبادلا التحيات بالدموع حتى أخبره بخبر عجيب ، قال له : لقد وجدت شخصا من دولة الكويت يسألني عن اسمك وقد كلفني بدعوتك إليه لأمر هام ، لم أعرفه ، كما إنه لا يعرف عنك شيئا سوى الإسم ومحل الإقامة ، وقد أرسل لك معي مبلغا من المال يساوي مصاريف الوصول إليه ، سلمه المبلغ مودعا إياه ، بعد أن ارتسمت على محياه ، علامة فرح مأسور ، وهمٍّ اقضَّ مضجعه بما دار وماسيدور ، وبماذا ستؤول إليه الأمور ، فاللقاء مع رجل كويتي يلفُّ حبل المشنقة على عنقه وسيصلبه على خشبة تركها المسيح تراود أعناق الأباة في كل زمن قبيح ، وعندما يسافر ، عليه أن يدفع للحكومة مبلغا ما يعادل راتب عشر سنين ، تردد كثيرا ، ولكنه أخيرا قرر السفر كي يصل إلى بغيةَ ذلك الرجل مهما كان ، فكثيرا ما راودته فكرة أن يبيع نفسه من اجل عائلته ، ولكن من يشتريه في زمن حصار ؟ صار فيه الإنسان سلعة تباع بأبخس الأثمان فكيف يتراجع وقد قبض ثمن ذلك البيع .
وصل ذلك الفندق ،نجومه خمسة تتلألأ ، تحيط به الازهار والورود ، تثاقلت خطاه وتلعثمت شفاه ، وهو يسأل عن ذلك الرجل ، مرّت دقائق ثقيلة بعد أن جلس على كرسي قرب طاولة لم يستخدم كمثلها أبدا ، سرعان ما اقترب منه الرجل ، نهض من الكرسي وما أن تبادلا التحية حتى سأله عن إسمه ومحل إقامته ثم أمسك بيده وأخذه إلى غرفة يقيم فيها ، تركه واقفا أمام الباب ، دخل ذلك الرجل الغرفة وبعد لحظات عاد إليه طالبا منه الدخول ، فوجئ بفتاتين ، صرخن بوجهه (انه هو .. هو .. لا غيره ) ، أرتعد خوفا ولم يتمالك نفسه لشدة ما أصابه من الذهول ، فماذا سيقول وقد امتنع منه اللسان عن القول ، أجلسه الرجل بجانبه على السرير وأخذ يسأله عن تلك الفتاتين إن كان يعرفهما وهل شاهدهما من قبل ؟.
استرجع قليلا بعد إن حدَّق في وجهيهما محركا عينيه إلى الوراء كأنهما عجلتي سيارة عرضتا على شاشة سينمائية ، سقط مغشيا عليه عندما تذكر ذلك الموقف “كان جنديا محاربا في الجيش الذي دخل مدينة الكويت ، جيش شرس متوحش استباح تلك المدينة ، وفي ليلة من إحدى الليالي سمع صراخ نساء في بيت مجاور للشارع الذي كان يؤدي فيه واجبه ، ركض مسرعا دون أن يفكر ما الذي يحدث وكيف؟ دخل البيت فوجد ضابطين يلاحقان فتاتين مذعورتين تلوذ أحدهما بالأخرى من غرفة إلى غرفة ، تراجع إلى الوراء بعد إن شهر بندقيته بوجهيهما ، حاول أحدهما سحب مسدسه ليشغله ، رماه الآخر برصاصة أخطأته وعندها ضغط على الزناد بإصبعه ولم يتوقف حتى أجبرهما على الفرار ، ثم عاد يطمئن الفتاتين محاولا تهدئتهما عما جرى ، هذا الموقف جعل منه بطلا منسيا في عالم يكتشف دقائق الأشياء الميتة ولا يلتفت إلى أناس اشتروا حياة بحياة أخرى لا يفقهها هذا العالم .
عاد إلى بيته في مدينة الناصرية بعد أن منحه ذلك الرجل مبلغا كبيرا من المال كي يستر شرف عياله كما ستر شرف الآخرين ، عبرَ بهذا المال كل عربات الحصار الثقيلة في ذلك الزمن المر .