منبر العراق الحر :
انتهى منذ سنوات العصر الذهبي للأغنية العربية، وانتهى آخر صنّاعه بغياب الموسيقار محمد سلطان (تموز/ يوليو 1937- تشرين الثاني/ نوفمبر 2022) عن خمسة وثمانين عامًا.
لعلّ حزن الجمهور في السوشيال ميديا ، وتحديدًا من فئة المثقفين ومحبي الفنّ العربي، نابع من ملامسة هذا الفراغ الذي خلّفه رحيل الكبار. فما عاد هناك شعراء بحجم الأبنودي وسيد حجاب وبيرم التونسي وأحمد فؤاد نجم وصلاح جاهين وفؤاد حداد… ولا صنّاع موسيقى بحجم عبد الوهاب وبليغ حمدي والأخوين رحباني، ولا مطربون من وزن أم كلثوم وأسمهان وليلى مراد وصباح فخري وناظم الغزالي، وفيروز التي اختارت أن تكون بعيدة في زمن لم يعد يشبهها.

مزاج إسكندراني
سلطان المولود على البحر في الإسكندرية مثل عمر الشريف وديميس روسوس وكفافيس وحسين بيكار ومحمود عبد العزيز وإدوار الخراط. يشتركون جمعيًا في الكوزموبوليتانية والانفتاح على العالم والتجربة الإنسانية، فلا مواقف صارمة ولا خطط محكمة لممارسة الحياة. هناك ذلك الولع بالتجربة والمحاولة والمغامرة والخفة، والقدرة في الوقت نفسه على المغادرة والتخلي عن أي شيء في أي لحظة. قانون الطفو فوق الموجة.
جرّب سلطان الدراسة في الأكاديمية البحرية ثم كلية حقوق، حاول أن يقدم نفسه ممثلًا عام 1960، وكان أشهر عمل له “عائلة زيزي” مع سعاد حسني وفؤاد المهندس، لكنّ حضوره أمام الكاميرا – رغم وسامته – كان متواضعًا جدًا.
جرّب أن يغني وسجل بصوته بعض الأغنيات، لم يبقَ منها شيء في الذاكرة، مقارنة مع ملحنين آخرين مثل سيد مكاوي. لكنّ الملعب الذي وجد مزاجه فيه – في نهاية الأمر – كان التلحين، رغم وجود الرواد والعمالقة آنذاك من القصبجي وعبد الوهاب حتى جيل بليغ حمدي.
بسبب هذا الازدحام والثراء، لم يكن له تجربة لافتة مع أحد من المطربين الكبار مثل عبد الحليم وشادية ونجاة ووردة، وبالطبع أم كلثوم. الوحيدة من مطربي الصف الأول التي منحته الفرصة وسلّمته قيادة موهبتها كانت فايزة أحمد (1930 -1983).

قصّة حب عظيمة
كانت فايزة أكبر منه بسبع سنوات، تنتمي لأصول سورية لبنانية، وسبق لها الزواج مبكرًا جدًا من ضابط سوري مزواج حاول استغلال موهبتها، وترك في نفسها مرارةً كبيرة، وهناك كلام عن زيجتين أخريين، قبل أن تلتقي حب حياتها محمد سلطان وتعيش معه لسنوات، أثمر الزواج ولدين توأمًا يعملان في مجال الطب.
ولكن بسبب توترها وغيرتها، حدث الانفصال قبل عامين من وفاتها، فتزوجت آنذاك من ضابط مصري زيجة تعيسة حاول منعها من الغناء ليحدث الانفصال سريعًا، وتعود إلى سلطان.
أحب فيها طيبتها وحنانها وكرمها، رغم توترتها الداخلي، ووجدت فيه الأمان والاستقرار والسند. وعند احتضارها المأساوي إثر مرضها بالسرطان أسندت رأسها على كتفه وقالت له: “عمري كلّه كان 17 سنة سعادة التي عشتها معك”.
انكسر قلب سلطان لرحيلها وهي بالكاد تجاوزت الخمسين، وكان حريصًا على زيارة قبرها يوميًا كي يبكيها.
وبوفاتها انتهت إحدى أجمل الثنائيات في تاريخ الأغنية العربية حيث لحن لها: “قاعد معاي، على وش القمر، دنيا جديدة، صعبان علينا منكو، نقطة الضعف اللي فيّ، يا أخد حبيبي يا بلاش، غريب يا زمان، خليكوا شاهدين، رسالة من امرأة، ياما أنت واحشني، هدى الليل، أيوة تعبني هواك، أحلى طريق في دنيتي، بالي معك، بحبك يا مصر، مال علي مال، خلينا ننسى، يا أمه يا هوايا”.
تعاونا في هذه الأعمال مع الشاعر عمر بطيشة بالدرجة الأولى، وشعراء كبار أمثال نزار قباني وعبد الرحمن الأبنودي ومجدي نجيب وسيد مرسي وعبد الوهاب محمد وحسين السيد ومحمد حمزة.
حاول الثنائي تقديم ألوان متنوعة للأغنية العربية، ما بين المطولات التي تمتد لساعة، والأغنية القصيرة جدًا والخفيفة الشديدة العصرية، وما يشبه الموشحات والفكلور الشعبي الخالص وحتى القصائد الفصيحة، إضافة إلى أغان دينية ووطنية.
كان ملحنها الملكي الذي ارتضى أن يبقى في ظل نجوميتها، والقابع على الكرسي خلفها، مقتصرًا عليها وحدها ومكتفيًا بها، شريكة في الحياة والفن. رغم أن فايزة نفسها لم تقطع حظوظها ولا خطوطها مع كبار الملحنين آنذاك.

بعد فايزة
في ظل وجود فايزة كان تعاون سلطان مع غيرها محدودًا، ربما أشهر تجاربه أغنية “أوعدك” لسعاد محمد، و”قدك المياس” لمحرم فؤاد وهي مبنية على الفلكلور السوري كتبها مجدي نجيب.
بعد رحيلها حاول أن يبقى في الضوء ويراهن على ثلاثة أصوات نسائية برزت في الثمانينات والتسعينات، أولهن ميادة الحناوي التي قدمت له أغنيات مثل: عاجبك كدا، هو مش أنا، وأكتر من الحب… لكن تجربته لا تقارن بشراكتها مع بليغ.
كما راهن على سميرة سعيد في أغنيات مثل: إحنا بنستناك على نار، روح يا زمان، والحب اللي أنا عايشاه. وعلى أصالة في: سامحتك كتير، ومش معقول، وكل الناس.
كلها رهانات لم تعوض رحيل فايزة، لكنّ حضور اسمه فتح له الباب دائمًا مع أجيال شابة، حققت نجاحًا لا يُنسى مع ألحانه، مثل هاني شاكر في “مشتريكي ما تبعيش” و”لو كنت غالي”، ونادية مصطفى “مسافات”، ومحمد ثروت “حاسب على قلبي حاسب”.
كان سلطان – رغم أن تجربته دون الكبار نسبيًا – ملحنًا يقع في منطقة وسط بين شجن بليغ الجارف وأناقة وفكر عبد الوهاب الموسيقي. كان صاحب نغمة “حنون” عاطفية دون ابتذال ولا حدة. يقدم قوالب الفلكلور كأنه فلكلور، مع الأناقة “والشياكة” والرهافة. ألحان تملك الصدق والشحنة العاطفية التي تجعلها تعيش في قلوب الناس.
وربما لا يعلم كثيرون أن موسيقاه حضرت أيضًا في أفلام ومسلسلات علامات مثل: الراقصة والسياسي، البشاير، النمر والأنثى، التوت والنبوت، ويا عزيزي كلنا لصوص.

نهاية الرحلة
لم يرغب سلطان في الاعتزال، لكن عصره الذهبي كان قد أفل. جرب نفسه هنا وهناك، ومع أصوات الألفية الجديدة مثل مي سليم.
ظهر في برامج كثيرة بروح الفروسية والنبل، تلك الروح المتصالحة مع نفسها بكرامة ورضا. فلا تشويه لأحد ولا انتقام من أحد. محتفظًا بذلك الوفاء النادر لشريكة عمره.
الزمن كله قد تغير. الناس والأحوال والموسيقى والشعر والأصوات. لم يعد الزمن زمن نبلاء. آنذاك اكتفى سلطان بالسير من شقته على النيل إلى مقهى ستراند الشعبي في باب اللوق، ليجالس البسطاء ويلاعبهم النرد، بمزاج الإسكندراني الفنان، مستمتعًا بتلك السكينة في نهاية الرحلة.
وربما كان معظم من يلاعبونه لا يعرفون أن هذا العجوز الذي يوشك أن يتم التسعين، كان في يومٍ من الأيام موسيقارًا كبيرًا.