منبر العراق الحر :
أصبح تقليداً لدى البعض أن يستأنف الشتائم ضد ثورة 14 تموز 1958 ويتوسع أكثر بقاموس السباب ضد زعيمها عبد الكريم قاسم، ومهما تزايدت الانتقادات ضد يوم 14 تموز ، وأبرزها تصفية العائلة الملكية في عملية جرمية وحشية وقذرة، فأن ثورة 14تموز أحدثت تغييرا جوهرياً في بنية النظام العام، تغيير نظام الحكم وأهم القوانين في الحياة العراقية، مشروع تأميم النفط، الاصلاح الزراعي، قانون العمل وإنهاء السخرة، قانون الأحوال المدنية وإنهاء العمل بقانون العشائر، تحسين مستوى معيشة المواطنين، الانتصار لصغار الموظفين في اسكان الدولة وصار بإمكان كل موظف الحصول على دار سكنية، بناء مدينة الثورة -الصدر حالياً وإنقاذ سكان “الصرائف ” من البؤس والفقر والأمراض والأوبئة من خلال اسكانهم في بيوت تتوفر على شروط صحية ومجاناً ، اطلاق الحريات السياسية والإعلامية وتحرير السجون من النزلاء السياسيين وغيرها من المكاسب والتحولات التي أشعرت العراقيين حينذاك أنهم عاشوا تغييراً حقيقياً في حياتهم .
عدد من عشاق العهد الملكي يجدون في ذكرى الثورة موعدا لتجديد ذكرى خيانة العسكر والحزن على نظام ملكي مستقر أول من بدأ بالحياة الدستورية والنيابية ومشروع الديمقراطية، سنوات بناء مشروع الدولة العراقية والسعي لاكتمال أركانها، ومجلس إعمارها الذي وضع الخطط للنهوض بالبلاد وتطوريها والعمل بأعلى درجات النزاهة والإخلاص،
وغيرها من الانجازات التي تحسب لنظام الملكية العراقية، لكن هؤلاء يتناسون طبيعة النظام الاقطاعي الذي كان يحكم الفلاحين بكل قسوة وإذلال ومصادرة جهودهم وحياتهم، وكيف إن نسبة الفقر والبطالة متفشية في عموم البلاد، وأن الاعطيات تمنح لشيوخ العشائر والوظائف لأبناء كبار المسؤولين والوزراء ، وأن هناك طبقة برجوازية تتألف من عدد من العوائل الارستقراطية لها الأفضلية في كل شيء، وثمة وظائف بالخارجية وسلك العسكر والشرطة لاتعطى إلا لأبناء تلك العوائل الثرية على حساب عامة الناس والجمهور ، وإن النظام الملكي قيّد حرية الأحزاب السياسية وتنفيذ حكم الاعدام على قادة الحزب الشيوعي العراقي في 14 شباط 1949، مؤسس الحزب يوسف سلمان يوسف “ فهد ” ورفاقه، دون مسوغ اخلاقي أو سياسي ولاينسجم مع مفاهيم الحياة الدستورية والنيابية، بل خضع الأمر للتوجيهات والضاوط البريطانية المتشددة آنذاك ضد نشاطات الحزب الشيوعي العراقي وقيادته للتظاهرات والانتفاضات .
مايدعو للاستغراب أن البعض من الحيل الجديد يتطرف في إعلان ولائه للعهد الملكي (ملكيون أكثر من الملك) رغم أنهم لم يعيشوا ذلك العهد، وماكان يحدث فيه من ظلم واضطهاد وانتفاضات وثورات عمالية وفلاحية، ولعل بعض قصائد الجواهري تشهد على ذلك .
العراق الملكي والعراق الجمهوري لكل منهما حسناته وسيئاته، وذاكرة الشعب رغم انقسامها بين هذا الطرف أو ذاك، لكن الواقع إن ثورة ١٤تموز ارتبطت وعبرت عن حالة من الحراك السياسي _الإجتماعي_ الوطني، ونقلت البلاد من حال إلى أخرى، برغم عمرها القصير لكنها أسست لبنى اجتماعية وأدبية وفنية وجمالية كانت تعبر عن حالة من التمظهرات الحديثة التي تعبر عن روح المجتمع ، ونحن هنا نتحدث عن جدارية نصب الحرية والحركة التشكيلية العراقية التي بلغت مستوى العالمية، وحركة الشعر الحديث الذي اسقط ميكانيكية القصيدة التي استمرت أكثر من ألف عام والمسرح العراقي وتطور مستويات الوعي، وانطلاق صحافة حرة ومتعددة الاتجاهات .
الإشكالية الآن مع النظام الراهن الذي ربعه ديمقراطي وثلثه اسلاموي والمتبقي سمه ماشئت، هذا النظام السياسي المضطرب شطب يوم ١٤ تموز من الأعياد الوطنية، دون أن يقدم تبريرا منطقياً لهذا الإجراء، لكن أصبح من الواضح إن من يقف وراء هذا الأمر هي منظومة سياسية تستهدف اغتيال التاريخ الوطني للعراقيين، بل تحاول نسف التاريخ الحديث، والإعلان عن تاريخ يبدأ مع عام2003 ومجيئهم للحكم تحت ظل الإحتلال، يشطبون الحدث البنيوي الأهم الذي يحمل العنوان الوطني والرسمي للعراق منذ 66 عاماً، الجمهورية العراقية، وكان عيدا وطنياً حتى في العهد الدكتاتوري، برغم موقف العداء المعلن لنظام البعث من عبد الكريم وثورته .
الشيء الذي لايفقهه هؤلاء أن ذاكرة التاريخ مدون فيها جميع تفاصيل الثورة، وهو ثابت والأنظمة تتغير ، وخصوصاً الأنظمة الفاسدة والكلبتوقراطية أي حكم اللصوص، فأنها تتغير سريعاً لأنها بلا دعائم في أرض العراق وتاريخه .
عاشت ثورة 14 تموز 1958 المجيدة .