بائعة اللبن في روما …نعيم عبد مهلهل

منبر العراق الحر :

نسيت في أي كتاب قراءة وفي أي مرحلة دراسية موجودة القصة التي عنوانها ( بائعة اللبن ) التي تحمل قدورها على رأسها وهي ذاهبة الى السوق لتبيع بضاعتها ، وفي الطريق بين ضرع الجاموسة والمحل الذي تجلس فيه بناصية بسوق مدينة الناصرية تضرب ارباع في اخماس في حلمها يوم تبيع بضاعتها كلها وتشتري كذا وكذا ، وفي غمرة حلم مشيتها الحالمة ببيع كل بضاعتها وماذا تفعل بالفلوس تتعثر بحجر وتسقط على الارض وتنكبْ بضاعتها وتخسر كل شيء ولم يبق لديها سوى حلم لم يتحقق وما ستتلاقاه من الأب أو الزوج من تعنيف وربما صفعات و ( دونكيات).
هذه القصة هي من بعض فصول حكايات الزمن الجميل أيام كنت اراقب نساء قريتنا وهن يحملن قدور اللبن والقيمر وهن ذاهبات ليصعدن المشاحيف ويذهبن الى مدينة الجبايش ليبعن بضاعتهن ويعدن محملات بالشاي والبهارات ومعاضد اليد الملونة والسكر ، وطالما تمنيت أن اسألهن أن يكن يملكن احلام وامنيات تسكن رؤوسهن في المسافة بين البيت والشريعة التي يقف عليها القارب وهن يحملن فيها الاواني . لكن الوضع الاجتماعي لا يسمح لنا بالاقتراب الى النساء وسؤالهن ، ومرات عندما يصل التلاميذ الى هذه القصة في فترة المنهج يمتلئون بالضحك وهم يتخيلون امهاتهم واخواتهم وهن يمرن بمثل هذه الحالة ومرات يجيء أحدهم وأول الدرس يخبر احد التلاميذ مرشد الصف أن أمه أو أخته تعرضت لمثل ذلك الحادث الذي تعرضت له بائعة اللبن في كتاب القراءة.
وفي العادة تعود هكذا نساء باكيات على الحظ العاثر الذي وضع الحجر في طريقهن واسقطهن ليتحولن الى قطعة بيضاء من اللبن والقيمر حد الذي تمنى فيه معلم الفنية أن يرسم واحدة من بنات المعدان وقد تعرضت الى مثل هذه العثرة ليبدوا كما يقول جسدها الابيض مبلالا بأمطار اللبن والقيمر صورة حقيقية تعكس جمال المكان.
ذات يوم صيفي كنت ازور العاصمة الايطالية عندما دعاني احد الاصدقاء لزيارات احدى الكاليرات التي يمتلكها عراقي يسكن روما من ثلاثين عاما ، وحين كنت اتفرج على اللوحات تفاجئت بلوحة بائعة اللبن تلك التي كانت مرسومة في كتاب القراءة المدرسية ، ذاته ما تخيله معلم الرسم لقد كان جسدها وعباءتها مغطاة باللبن وهي تتحسس ألم قدميها مع لمعان حجولها الفضة فيما تناثرت القدور حولها .
استعدت ذلك المنظر الجميل وهواجس لحظة حمل نساء قريتنا بضاعتهن وهن ذاهبات الى المدينة . تذكرت فرح الاطفال يوم يكتشفون أن واحدة تعثرت مع قدورها فقط لينالوا من المعلم ابتسامة واصغاء ليقصوا له الواقعة.
احلام الامس جعلتني وبإحساس ما افتش عن توقيع الرسام اسفل اللوحة .
المفاجأة أن اللوحة حملت توقيع أسم اكاد أن اعرفه واتذكره ، وربما هو ذات المعلم الذي تمنى رسم لحظة عثرة الحجر والذي اختار المنفى قبل هجرتي.
اخذت رقم تلفونه من صاحب قاعة الرسم ، ومع اول نبرة صوته عرفته انه فعلا معلم الرسم في مدرستنا .
وقتها اكتشفت أنَ اللحظة الاكثر سعادة في البلاد البعيدة أن يجمعكَ مع من نتفقده ونشتاق لمعرفة أخباره ماعون قيمر وقدر لبن مسكوب على الأرض..!
قد تكون صورة بالأبيض والأسود لـ ‏‏‏‏٣‏ أشخاص‏، و‏شارع‏‏ و‏نص‏‏

اترك رد