منبر العراق الحر :
ذات يوم أخبرني المدير أن من بين تلاميذ مدرستنا سيكون هناك طفلٌ ضرير ٌ جاءنا نقلاً من مدرسة في منطقة الشرش القريبة من القرنة بعد أن انتقل وأهله إلى قريتنا نازحين ومجبرين لمشكلة عشائرية حَتمت عليهم الهجرة من محل سكنهم، والغريب أن اسم التلميذ طه، ولكن ليس طه حسين ليكون مشابهاً في فقدان البصر والاسم لعميد الأدب العربي طه حسين، بل كان اسمه طه ونين.
ولكنه عندما جاء صغّر اسم أبيه وقال: إن اسمه طه (أونين)، وقتها سألت إن كان لاسم أبيك أو أنت علاقة بالونين، ضحك التلميذ وقال: أستاذ أنا وأبي نجيد الونين. ولكن أولاً أنا قارئ جيد للقرآن وتجويده فقد ختم القرآن عند الملا في القرنة قبل أن يأتي إلى المدرسة ويصل إلى الصف الخامس.
سألته إن كان يعرف أديب مصري اسمه طه حسين هو أيضاً كفيف وختم القرآن وهو في صغره.
قال: لا أعرفه ولكن طه مصر حتماً لا يشبه طه الشرش.
تعجبت لنباهته، وقلت: أتمنى أن تكون مثله.
قال: لا أظن.
قلت: لماذا.؟
قال: لأن طه المصري لم تكن تطارده بنادق الثارات.
ازددت إعجاباً بالصبي ونباهته والذي أصرّ أن يدخل إلى المدرسة بعمر العاشرة وهو اليوم في الخامسة عشرة ويتحدث بفصاحة لم تألفها الأهوار، أن يكون صبيٌ بهذا العمر ويفكر جيداً ويختار الجواب بإجابة عارف ومجرب.
قلت له: أنت تحتاج أن تقرأ كتاب الأيام لطه حسين لتعرف أن للعميان في قدر فقدان البصر طريقاً واحداً هو علم الكلام والكتابة.
قال: إن شاء الله.
كنت في الثالث متوسط في الناصرية عندما طلب مني مدرس اللغة العربية موسى كاكي سليم، وكان فاقد البصر أن أسجِّل له كتاب الأيام على آلة تسجيل قديمة جلبها من بيته، وكنت أقرأ كل يوم مقداراً من الكتاب في المكتبة المدرسية وقت الشواغر، وكان يصحِّح لي المفردات التي ألفظها خطأ.
وأعترف أن تلك القراءات كانت واحدة من اللائي ساعدن موهبة الكتابة لديَّ عندما كنت أتخيّل حياة طه حسين وجهاده وعصاميته، قبل أن يظهر إلى العالم كفيلم سينمائي من بطولة محمود ياسين، ووفاء لتلك الأيام كان عليَّ أن أعتني بالتلميذ طه الذي أكمل السادس، وذهب إلى مدرسة متوسطة في القرنة بعد أن سمحت لهم الدية العشائرية بالعودة إلى بيتهم.
ذات يوم كنت في مربد البصرة بعد عشرين عاماً من الغربة أتجول في شوارع العشار عندما رأيت رجلاً ضريراً أنيقاً يمسكه رفيق له ويقوده، وكانا يتمازحان عندما اعترضت طريقهما وألقيت التحية.
انتبه الضرير إلى صوتي وقال: بالله عليك يا سيدي أعد إلقاء التحية مرة أخرى؟
أعدتها مرة أخرى. فاستبشر وجهه بفرح غريب وقال: أهلاً وسهلاً بمعلم الجغرافيا، مرَّ وقت طويل.
قلت: تعرف أنا كنت في الظن الأكيد أنكَ أنتَ التلميذ طه.
قال: نعم أستاذ، وبعدك حفظت كتاب طه حسين عن ظهر قلب، وبسببه ذهبت إلى كلية الآداب وها أنا ذا مدرس.
ابتسمت وأنا أعانقه وأقول: وهو مكانكَ الطبيعي يا طه……!