منبر العراق الحر :
في فضاء الدراما التاريخية، يُفترض أن تكون الأعمال الفنية جسراً بين الماضي والحاضر، وسبيلاً للتثقيف قبل أن تكون وسيلة للترفيه. غير أن مسلسل “معاوية”، الذي عرض أخيراً في بعض القنوات العربية، جاء ليشعل نيران الجدل بدلاً من أن يسلط الضوء على حقائق التاريخ. فبين محاولات إعادة رسم الأحداث بروح فنية، وبين تجاوز الحقائق التاريخية وتقديم شخصياتها في قوالب لا تمت إلى الواقع بصلة، يبدو أن المسلسل قد اختار مسار الفبركة بدلاً من مسار التوثيق.
اختيار معاوية.. هل هو استحضار للتاريخ أم استثارة للفتنة؟
ليس خافياً على أحد أن شخصية معاوية بن أبي سفيان تظل من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ الإسلامي. فالرجل الذي أسس الدولة الأموية ووطّد حكمه عبر مزيج من الدهاء السياسي والقوة العسكرية، ليس محل إجماع بين المؤرخين، بل هو نقطة خلاف كبرى بين المذاهب الإسلامية. فما الذي دفع القائمين على المسلسل لاختياره محوراً للعمل؟ هل كان الدافع هو تسليط الضوء على شخصية تاريخية أم كان الأمر محاولة خفية لخلق انقسام مجتمعي لا طائل منه؟
إنتاج ضخم لخدمة رؤية مشوهة
رُصد لهذا المسلسل ميزانية ضخمة تجاوزت مئة مليون دولار، وهو من إنتاج مجموعة “إم بي سي” المملوكة للسعودية، ما يطرح تساؤلات حول دوافع هذا الاستثمار الضخم في عمل يثير كل هذا الجدل، ويبدو أنه أُنتج لتقديم رؤية منحازة أكثر من كونه عملاً توثيقياً دقيقاً.
سرد مشوه وتاريخ منقوص
المتابع للمسلسل يلحظ منذ الحلقات الأولى أنه يقدم صورة مثالية لمعاوية، وكأن الرجل كان فيلسوفاً حكيماً يملك رؤية عميقة تفوق زمانه، بينما الحقيقة التاريخية تنقل عنه صورة مختلفة تماماً، إذ كان شخصية سياسية، لكنها لا تخرج عن إطار السعي إلى السلطة بكل السبل الممكنة. بل إن المسلسل يتجاوز أبسط الحقائق الزمنية، حيث يدّعي أن معاوية كان من كتبة الوحي، رغم أن عمره عند وفاة النبي لم يكن يتجاوز الحادية عشرة، وهي مغالطة تاريخية فجة لا يمكن القبول بها، كما أشار الدكتور بشار عواد معروف، وهو أحد أبرز الباحثين في التاريخ الإسلامي.
ومن الجوانب التي تجاهلها المسلسل أيضاً أن اسم “معاوية” في اللغة يعني الكلبة التي تكثر من النباح، وهو معنى يحمل دلالة سلبية لم يتم الإشارة إليها في العمل، حيث حاول تصوير الاسم في سياق مشرق بعيداً عن حقيقته اللغوية.
أكثر من ذلك، يقدم العمل قريشاً وكأنهم يعيشون في أجواء روما الإمبراطورية، بلباس فخم ومظاهر حياة لا تتناسب مع بيئة مكة في ذلك العصر، مما يعكس افتقار المسلسل للحد الأدنى من الدقة في تقديم الصورة البصرية. كما أن استخدام الورق السمرقندي، الذي لم يظهر في الجزيرة العربية إلا في القرن الثالث الهجري، يُعد سقطة تاريخية تدل على عدم التزام فريق العمل بأبجديات البحث التاريخي.
دراما أم دعاية؟
الدراما ليست مجرد سرد لأحداث الماضي، بل هي أداة قوية تؤثر على وعي المشاهد وتشكّل رؤيته للعالم. وعندما تُستخدم هذه الأداة لتزييف الوقائع أو لفرض صورة محددة على الجمهور، فإنها تتحول من عمل إبداعي إلى دعاية موجهة. المسلسل يكرّس صورة لمعاوية وكأنه القائد المثالي، بينما يتجاهل تماماً أنه هو من ورّث الحكم لابنه يزيد، الذي شهد عهده أحداثاً جسيمة كواقعة كربلاء وهدم الكعبة.
هل كنا بحاجة إلى هذا العمل؟
إن الفتنة التي يحاول المسلسل إعادة إحيائها هي أبعد ما تكون عن الحاجة الحقيقية لمجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم. فبدلاً من تقديم أعمال تعزز الوعي التاريخي وتساهم في صناعة مستقبل أكثر اتزاناً، يختار بعض المنتجين أن يغرقوا في تراث الصراعات والدماء. ألم يكن الأولى تقديم شخصيات تاريخية تمثل النقاء الفكري والإسهام الحضاري، بدلاً من شخصيات لا تزال مثار جدل وصراع؟
ربما كان الأجدر بصنّاع الدراما أن يدركوا أن التاريخ ليس ورقة بيضاء يمكن إعادة كتابتها وفق الهوى والرغبة، بل هو سجل مليء بالتفاصيل الدقيقة التي يجب التعامل معها بإنصاف. وإن كان الغرض من مسلسل “معاوية” هو بعث الفتنة من جديد، فإن الردّ عليه لا يكون بالمزيد من الاستقطاب، بل بالوعي والبحث الرصين في صفحات التاريخ، بعيداً عن زيف الشاشات.
