منبر العراق الحر :
يزور ملك العراق الصغير (فيصل الثاني) قرى الأهوار في الجبايش بين حين وآخر، ولكن ليس بقدميه أو بمشحوفه الملكي الذي ربما يشبه المشحوف الملكي لخان المغول في الصين قبلاي خان في نزهاته الأسطورية في النهر الأصفر، حيث لم يزر الملك المغدور (فيصل) هذه المناطق، ولكنه حتماً يعرفها جيداً من خلال أسئلته لمرافقيه ولوزيره (نوري باشا السعيد) الذي يعرف وبعمق جميع طبقات المجتمع العراقي.
لكنه يزورها دوماً من خلال صورته المرسومة على الطوابع في البريد الإداري الذي يرسل إلى مدارس الأهوار أيام الحكم الملكي.
وحين قتل الملك في مذبحة قصر الزهور في الانقلاب الجمهوري أتى الزعيم عبد الكريم، وكانت صوره في الطوابع أيضاً، وجاءت أيضاً في بعض معاملات وأوراق البريد التربوي، ويبدو أن الملك والزعيم ليس لهما مكان في ذاكرة المعدان ما دامت الدولة بعيدة عنهما، ولا تبحث عن أبنائهم لسوقهم إلى خدمة العلم، وعندما كنت أسأل الرجال في القرية عن خمسة رجال بالتسلسل فيصل، عبد الكريم، عبد السلام، عبد الرحمن، البكر.
فإن الملك والرؤساء الأربع يتساوون في مقدار المعلومة، لكن الملك قد يتفوق قليلاً على الجميع؛ لأن في واحد من أشهر حزن الحسين (ع). جاء قارئ المجلس الحسيني وذكر لهم مرة بعد أن أطاح الحكم الجمهوري بالحكم الملكي بأن الملك القتيل من أصل علوي.
أبقت هذه المعلومة مشاعر راحة في قلوبهم، وعلى الرغم من هذا لا الملك ولا غيره يهم حياتهم، وكانوا يسمون كل شيء رسمي، المدرسة، وزورق التطعيم الصحي، ومساحي دائرة الزراعة، وحتى الرحالة والمنقبين وعلماء البيئة، وكل هؤلاء يتوافدون في أوقات متباعدة قد تطول سنوات عدا معلمي المدرسة يسمون كل هؤلاء (حكومة)…!
ذات يوم أتى رجال لم يسبق لهم أن يروا أشكالهم، ولم يعرفوا طبيعة عملهم وأخبروهم أنهم من فلاحي الجمهورية الاشتراكية الجديدة.
لم يفهموا القصد، وحتى شروحات القادمين لم يصلوا معها إلى شيء يفهمون منهم ما يريدون.
جاء أهل القرية إلينا في إدارة المدرسة، وقالوا: تعالوا تفاهموا مع الجماعة بدلنا، يتحدثون عن زراعة الطماطم والبطاطا وحاجات أخرى نحن لا نعرف زراعتها ونشتريها من السوق.
فهمنا من القادمين أنهم من الجمعية الفلاحية في الجبايش، ويريدون تأسيس جمعية تعاونية في القرية على أساس أن ساكني المكان من الفلاحين.
قال لهم شغاتي: نحن لسنا فلاحين، نحن مربّو (جِمس)، وإذا أردتم للجواميس جمعية فهي لا ترغب بذلك، حياتها منظمة منذ قديم الزمان.
وإذا أردتم أن تشكونا للجمهورية، سننتخي بالملك ونقول له: تعال أيها الملك.
اغتاظ الرجال وعادوا إلى الجبايش، وأحدهم قدم شكوى إلى المنظمة الحزبية في المدينة بأن واحداً من المعدان، لا يرغب بالبكر ويريد الملك.
أرسلوا لنا كتاباً تحريرياً يستدعون فيه شغاتي للحضور إلى مقر الفرقة الحزبية، وأظن أن هذا أول استدعاء لرجل من الأهوار حول قضية تهمّ الجمهورية والملكية.
الرجل لم يرتعب ولم يخف، وقال: سأقول لهم أنا لم أرَ لا الملك ولا البكر، ولأن الملك ربما يعرف أكثر من البكر أن الجواميس لا يمكن زراعتها.
المصادفة الجميلة أن مسؤول الفرقة كان معلماً في قريتنا، سمع إجابة شغاتي يوم حضر إليهم.
ضحك وهمس إليه: رحمة لوالديك شغاتي لا تكرر هذه العبارة (تعال أيها الملك) ثانية، قل: تعال أيها البكر.
قال شغاتي: هل يجيء حين أقول له تعال.
قال المسؤول: نحن نأتي بدله؟
ضحك شغاتي، وقال: لا. لن أقول لا الملك ولا البكر، سأقول: احضر يا علي……………..
ملك المعدان الهاشمي
بعد فشل أحداث ثورة رشيد عالي الكيلاني والضباط الأربع ضد الملكية والإنكليز 1941 طاف مشحوف على القرى المنسية في الأهوار (أم شعثة، دولبه، مسنايه، حذافة، أم العظام، قرية الرواديد، سلف سيد منهل، وقرية السنسول وآل فرحان والسادة المهازيع). وهو يحمل موظفين حكوميين ولديهم أوامر بتوزيع صورة الملك فيصل الثاني على تلك القرى مع توصية من متصرف اللواء أن لا يكون التوزيع إجبارياً.
وكان الموظف الذي يحمل تصاوير الملك التي طبعت في مطابع المكتبة الوطنية البريطانية وضعت في صناديق أنيقة وبالألوان التي بدت براقة، وتشع فيها صورة الملك الصبي الذي لم يزل تحت وصاية خاله الأمير عبد الإله.
كان ينادي: هذه صورة الملك الهاشمي من نسل النبي من يُريد أن يتبرك بها في بيته فليأخذ واحدة أو أكثر.
يقول شغاتي موظف الخدمة في مدرستنا وهو يروي هذه الحكاية وكان وقتها شاباً يافعاً: كان وجه الملك المشع بابتسامة جميلة مفاجئة أن نرى ملكاً من نسل الرسول يحمل وجهه إلى قرى المعدان.
فكرة اقتناء صورة للملك استهوتهم كثيراً وأن والد شغاتي تصرف بحكمة ليقنع نفسه ورجال القرية بضرورة اقتناء صورة الملك قائلاً: إن بيوتنا فيها صورة نتبرك بها للإمام علي (ع) وهو يُجلس ولديه الحسن والحسين (ع) على ركبتيه وخلفهم خادمه الأمين قنبر.
ومادام الملك من نسل النبي فلندعه حفيداً للإمام وإن لم ترضوا فهو خادمه مثل قنبر ولنعلق صورته.
يقول شغاتي: ومن يومها عرف المعدان التفاصيل الواضحة لوجه الملك بعدما كانوا لا يعرفون سوى تفاصيل وجوه موظفي الحكومة الذين كانوا يتحدثون باسمه يوم تتشاجر القرى فيما بينهما ويصبح بينها في بعض الأحيان مقاتل لتأتي شخاتير الشرطة تفضّ النزاع وتلقي القبض على المطلوبين باسم الملك حتى أن بعض المعدان البسطاء عندما كانوا يسمعون باسم الملك يتخيلونه يشبه هذا الملك الذي يأتي ذكره على لسان القارئ الحسيني، كملك للموت أو ملكي الحساب منكر ونكير، أو الملك جبرائيل الذي أنزل القرآن الكريم على صدر النبي.
وأحدهم كان يعتقد أن هذا الملك موجود في دار الحكومة في قضاء الجبايش حين سلطته على (طوايف) هور الجبايش، وأن الفهود والقرنة والقرى التي تجاور مرقد سيد يوشع والعلوية (فواده) لها ملكها الذي يحكمها، ولكن غير صاحب هذه الصورة، ولكنه بقي يتساءل وهو مندهش من لمعان الألوان الأوفست التي تدخل لأول مرة تاريخ جدران بيوت الأهوار: من وين لكت الجبايش هذا الملك الحلو وبدلته المزركشة؟
وهكذا من بداية الأربعينيات، وحتى ما بعد ثورة 14 تموز في 1958 ظلت صورة الملك الهاشمي تجاور صور الأئمة وصورة بنت المعيدي، فكانت تلك الجدران المبنية من القصب تحمل ثلاثة هواجس المذهب والحاكم والخيال الرومانسي المغرم بوجه بنت المعيدي.
لسنوات لم يجرؤ أي واحد من أبناء المعدان من إنزال صورة الملك حتى مع قيام بعض المعلمين بجلب صورة الزعيم عبد الكريم وتوزيعها على بعض البيوت، وهكذا سكنت جدران بيوت المعدان صراعات السياسة منذ أن أتت صورة الزعيم لتكون جنباً إلى جنب مع صورة الملك حد الذي علق فيه أحد المعلمين وهو يزور بيت أبو شغاتي في أواخر الخمسينيات: أظن أنه لا يصلح أن تكون صورة القاتل مع المقتول في مكان واحد. ومازال القاتل منتصراً فعلينا إنزال المقتول.
معلم جنبه قال: لا أظن أن الزعيم قاتل، ولكن لكل ثورة أخطاؤها.
قال المعلم: وعلى الرغم من هذا الملك والزعيم لا يجتمعان.
انتبه والد أبي شغاتي للنقاش وقال: أنتما لا تقرران أنا من يقرِّر. سيظلان في مكانيهما والزمن من يقرر أي صورة ستنزل من الجدار…
أنصت إلى قصة شغاتي وأصل إلى يقين أن رد والد شغاتي كانت أول حكمة أسمعها من رجل عاش في هذا المكان وهو ينصفُ ملك المعدان…
طواويس الملك في الأهوار
الطاوس من أجمل الطيور يمكنه نشر ريشه إلى الخلف في شكل مروحة جميلة طولها نحو خمس مرات طول جسم الطاوس. وهو أكثر الطيور بهرجة وزهواً، وذلك لكثرة ريشه وجماله. وأكثر أنواع الطاوس ألواناً هو النوع الهندي.
والطاوس كرمز ديني هو شعار الديانة اليزيدية حيث يقدس اليزيديون الطاوس الملك الذي هو رئيس الملائكة لديهم، كلمة (ووس Us) هو اسم لأحد الآلهة الآرية الإغريقية، والاسم متكوِّن من (تا – ووس) (Ta -ûs) أي نور الله…
وهناك الطاوس العرش (بالفارسية: تخت طاوس) هو أصلاً عرش مغول الهند الكبار. وبعد استيلاء نادر شاه الصفوي عليه، وأخذه إلى إيران أصبح تعبير عرش الطاوس يشير إلى عروش الأباطرة الفرس حتى آخرهم محمد رضا بهلوي.
طاوس رابع هو اسم تلميذ في مدرستنا يوم تم تسجيله استغربنا كثيراً من هذا الاسم فلا أحد من سكان قريتنا يعرف الطاوس أو رآه هذا ما اكتشفته في أسئلتي لهم يوم حط هذا الطاوس في سجل القيد العام بعد ثاني اسم لتلميذ في مدرستنا يحمل اسم طائر، لكن الاسم الأول ينتمي إلى طيور المكان عندما سمّوه (دلمه) والسبب أن طائر (الدِّلم) نوع من أنواع الحمام الوحشي كان يقف فوق الصريفة يوم ولدت الأم (دلمه) وعلى الرغم من أن صوت المفردة يدل على أنوثة إلا أنهم أطلقوها على ذكر.
يجيء والد التلميذ فنسأله، فنعرف أنه ليس أباه إنما هو جدّه (غافل عفلج)، فالأب مات في حادث غرق وهو يبحث عن جاموسته الضائعة في عمق الأهوار، وكان طاوس في بطن أمه، ولماذا سماه طاوس قال: إنه في الزمن الملكي كان يسكن قرية السادة المهافيف، وبشجار حول مكان رعي جواميسهم شجَّ رأس جاره (نومان) بتوثيته فكان أن هرب إلى بغداد وعائلته، وسكن صرائف مدينة الثورة قرب بيت قريب له كان يشتغل فلاحاً في الحديقة الملكية، والذي شغله بدوره أيضاً بأجر يومي مقداره (10 عانات) وهناك عهد إليه بمداواة أربعة طواويس أهداها للملك أحد الأغوات (البهرة) يوم تقدم إلى الملك بطلب الحصول على قطعة أرض لهم تكون خان يبيت به البهرة الذين يزورون النجف من الهند واليمن والباكستان وباقي البلدان.
وهكذا تنامت العلاقة الحميمية بين الرجل المعيدي وطواويس الملك وصارت الطيور لا تأكل سوى من يديه، ويقول: إنه عاد مرة ثانية إلى فعلة شج رأس أحدهم، ولكن ليس بسبب الجواميس، بل بسبب الطواويس عندما شاهد غافل رجلاً من العاملين في القصر يعمل بجناح آخر من الحديقة بصفة بستاني يأتي خلسه ويلامس أجنحة الطواويس بحنان، ثم يبتعد عنها، وعندما تكررت العملية خاف غافل على الطواويس فهي بعهدته، وإن تعرضت لعارض سيسجنونه. لكنه اكتشف بعد أن تم مداواة هذا المتطفل الذي يلامس بحنان أجنحة الطيور أنه من ديانة أخرى تسمى (اليزيدية) تقدّرُ الطاوس وتبجّله، وعندما أفهموا غافل بهذا ذهب إليه واعتذر من البستاني (فرج حسو) الذي قبل الاعتذار برضا وابتسامة وقدّر الموقف. ومن يومها تركه يقترب من الطواويس ويجلس معها لساعات.
يقول غافل: جاءت الثورة، فذهب الملك والحديقة والقصر كله، لأعود حزيناً بعد أن فارقت تلك الطيور الجميلة التي كان الملك فيصل الثاني يعشقها ويكرمني بدينار كلما جاء إليها ليطعمها، وهكذا أكون أنا أول معيدي في الأهوار من يصافح الملك ويتكلم معه وينال منه إكرامية أسبوعية.
عدت إلى الأهوار بعد موت الملك وذهاب الطاوس إلى حديقة الحيوانات، وسكنت قرية أم شعثة وزوجت ابني وتمنيت عليه أن يسمِّي ولده طاوساً، فرضي بالاسم، لكن الله أخذ أمانته قبل أن تولد زوجته، فربّيته أنا وأطلقت عليه هذا الاسم وفاء لطواويس الملك…..!
أبي وعقال الملك يوم التنصيب
ارتدى الملك فيصل الأول يوم جيء به من دمشق وأعطي العراق ملكاً، فكان له يوم تتويج ارتدى فيه العقال الحجازي المقصب واليشماغ الأبيض الذي تخصصت سويسرا في صنعه، ولم يكن يرتدي مثله في الحضور المدعو سوى اثنان شيخ شمر، وهي قبيلة كبيرة من قبائل شبه الجزيرة العربية، وأسسوا حاضرة منذ الجاهلية في الجبلين آجا وسلمى وعاصمتها حائل، وكانت مساكن شمر شمال آجا، ثم سيطرت على بقية آجا بالقرن التاسع للهجرة، وتنقسم القبيلة إلى ثلاثة أقسام كبيرة هي عبده والأسلم وزوبع، وتمتد أماكن تواجدهم في السعودية ودول الخليج والعراق والشام وفي أنحاء الوطن العربي وتتواجد أيضاً في بلاد فارس في منطقة الأحواز. ربيعة أحد الشعبين الرئيسيين الذين ينقسم إليهما جذم العرب العدنانية إلى جانب مضر، ويقال لهم العرب الربعية. وكانت قبائل ربيعة وسط وشرق وشمال الجزيرة العربية فسكنت عبد القيس الجزيرة العربية وتستقر بنو حنيفة في اليمامة واستقرت تغلب في العراق وشرقي الأردن والشام، ثم نزحت شمالاً إلى الجزيرة الفراتية شمال العراق وعرفت المنطقة الجنوبية منها باسم “ديار ربيعة”.
وابتهاجاً بمناسبة عرسه ارتدى المرحوم أبي العقال الدائري الأسود المصنوع في قضاء الحي ويشماغاً بنقطٍ سود مرتبطة فيما بينها يلبسه معظم المدن الواقعة جنوب بغداد، وقد صُنعَ في مملكة السويد وبين تنصيب فيصل بن الحسين ملكاً وزواج (عبد مهلهل).
أضع العقال من بعض خيال الرأس ودالته وأرتجف حين كنت أرى في طفولتي رجلاً يهتز غضباً حين يسقط العقال من رأسه في الشجار، وحين سألت أبي عن سر ذلك قال: الملك هيبته تاجه والفقير هيبته عقاله.
ولهذا كنت في الرابع الابتدائي عندما رأيت طابعاً للمك فيصل وهو يرتدي العقال الرباعي الأضلاع فتخيلت أن العقال هو التاج، لكن عقال الملك كان مصنوعاً من خيوط الكلبدون الذهبي الخالص وعقال الفقراء من الصوف الأسود.
عندما ذهبت إلى قرية (أم شعثة) كمعلم لدرس الجغرافية لم أشاهد العقال كثيراً على رؤوس المعدان، هم يرتدونه فقط في مناسبات الأفراح والأحزان أو النزول إلى المدينة، وكان شغاتي موظف الخدمة في المدرسة يقول: العقال لا يجعل المعدان يمتلكون الهيبة، ولن تنقاد الجواميس لمن يلبس عقالاً، بل تنقاد لمن يمسك (التوثية).
أتذكره حين كنا نرسله إلى المدينة ليجلب لنا القرطاسية أو الكتب كان يرتدي عقالاً يشبه عقال أبي وكان يقول: التربية لا تريد ريفياً يراجعها وهو (مفرع)، الهيبة في العقال.
وتلك الرؤية تشابه تماماً رؤية المسس (بيل) موظفة الاستخبارات البريطانية الأولى في العراق، وأول مديرة للمتحف الوطني العراقي للآثار قولها: تركنا الملك يرتدي عقالاً ونصحناه ليصور أول طابع رسمي للمملكة بهذا العقال كي يعرف الناس أن الذي فوق رأس الملك هو مثل الذي فوق رؤوسهم.
وقتها رمى الملك الورقة التي كتبت فيها النصيحة بوجه المندوب السامي وقال: لا تنصحوني بأمر أدركه أنا قبلكم.
بين عقال الملك فيصل وعقال أبي (عبد) وعقال شغاتي الطيب في ذكريات المدرسية التي كانت تغفو بين الماء والقصب أتخيل قصص تلك الأيام وعبرها، فأنظر في سماء غربتي إلى حشد النجوم التي فوق رأسي وأمزجها ببريق نجوم ليل الأهوار لتنزل حزماً على شكل عقال وتجلس فوق رأسي.
