منبر العراق الحر :
في ظلمات الجاهلية، حيث كانت العقول مكبلة بالأوهام والقلوب مثقلة بالضلال، أشرق نور الوحي الإلهي ليعيد للإنسانية رشدها، ويقودها إلى سبيل الحق. لم يكن ذلك مجرد حدث تاريخي، بل كان تحولًا كونيًا أعاد ترتيب الوجود برمته، حين اصطفى الله قلبًا طاهرًا، وأهّله لحمل أعظم رسالة عرفتها البشرية. ذلك القلب هو قلب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، الإنسان الذي اجتمع فيه صفاء الروح وقوة الإرادة، فكان وعاءً للنور الإلهي، ومحلًا لنزول كلام الله الخالد: القرآن الكريم.
اللقاء الأول مع الوحي: بداية عهد جديد.
اعتاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يختلي بنفسه في غار حراء، يبتعد عن صخب الحياة في مكة، ويتأمل في ملكوت الله، باحثًا عن الحقيقة وسط عالم يغرق في الجهل والفساد. وفي إحدى ليالي رمضان، وهو في الأربعين من عمره، جاءه جبريل عليه السلام يحمل أول كلمات الوحي، فقال له:
*> “اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم” (العلق: 1-5).
كانت هذه اللحظة بداية الرسالة، والنداء الإلهي الأول لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، إيذانًا بانطلاق عهد جديد للبشرية. عاد النبي إلى بيته مرتجفًا من رهبة الموقف، وقال للسيدة خديجة: “زملوني زملوني”، فطمأنته بقولها:
*> “كلا، أبشر! فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”.
نزول القرآن على قلب النبي: إعدادٌ وتحملٌ للأمانة
لم يكن نزول الوحي مجرد عملية تلقين، بل كان إعدادًا روحيًا ونفسيًا للنبي ليحمل أمانة ثقيلة. يقول الله تعالى:
> “نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين” (الشعراء: 193-194).
لقد اختار الله قلب محمد ليكون مستقرًا لكلامه، فكان عليه أن يتحمل شدائد الوحي، حيث كان أحيانًا يأتيه شديدًا كوقع الجرس، وأحيانًا على هيئة جبريل متحدثًا إليه. وكان أثر ذلك واضحًا عليه، فقد كان يتصبب عرقًا حتى في الليالي الباردة، لشدة ما يشعر به من ثقل الوحي.
التدرج في نزول القرآن: حكمة إلهية
لم ينزل القرآن دفعة واحدة، بل نزل متفرقًا على مدار 23 عامًا، لحكمة إلهية عظيمة، منها تثبيت قلب النبي ومواكبة الأحداث والتغيرات، كما قال الله تعالى:
**> “وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلًا” (الفرقان: 32).
نزول القرآن بين مكة والمدينة
مر نزول القرآن الكريم بمرحلتين رئيسيتين:
المرحلة المكية: تميزت آياتها بالدعوة إلى التوحيد، والتركيز على العقيدة، والتحذير من الشرك، والتأكيد على البعث والجزاء.
المرحلة المدنية: تضمنت تشريعات تفصيلية لبناء المجتمع الإسلامي، من أحكام العبادات، والمعاملات، والسياسة، والعلاقات الدولية، والأخلاق.
القرآن دستور دولة العدل الإلهية*
لم يكن القرآن مجرد كلمات تتلى، بل كان منهجًا إلهيًا يُقيم العدل، ويؤسس لدولة تقوم على القيم الربانية، حيث يرسم معالم الطريق إلى إقامة الحق والعدل الإلهي في الأرض.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو التجسيد الحي للقرآن، كما قالت السيدة عائشة عليها السلام:
> “كان خلقه القرآن”.
كان يطبق تعاليمه في كل تفاصيل حياته، فكان رحيمًا، عادلًا، صادقًا، لا يغضب إلا لله، ولا يسعى إلا لإقامة الحق.
الرسالة المستمرة
بعد أكثر من 1400 عام، لا يزال القرآن الكريم هو النور الذي يهدي البشرية، محفوظًا من التحريف، كما وعد الله:
*> “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” (الحجر: 9).
إن نزول القرآن الكريم لم يكن مجرد حدث عابر، بل كان بداية عهد جديد للبشرية، ونقطة تحول نحو الهداية والعدالة. وهو اليوم المرجع الأساس لكل من يسعى إلى إقامة الحق والعدل في الأرض. سيبقى القرآن دستور دولة العدل الإلهية، ونورًا لمن أراد أن يسير على طريق الحق والرشاد.
ولا تزال القلوب تتلقى نوره، كما تلقاه قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليبقى نبراسًا لمن أراد الحق، ودستورًا إلهيًا لدولة العدل الإلهية إلى يوم الدين.