منبر العراق الحر :
كأنما هذا العصر قد عقد هدنة طويلة مع اللامعقول، وترك العقل يقف عند بوابات العجز، عاجزاً عن النفاذ إلى صلب الحقيقة، محروماً من امتلاك سلطته الشرعية في الحكم والفرز. لا نكاد نفتح أعيننا على مشهدٍ اجتماعي أو تربوي أو سياسي إلا ونلمح ضباباً كثيفاً يحجب وجه العقل، فيما يتعملق اللامعقول، فيزيح الميزان عن كفّتيه، ويخدّر الحس النقدي، ويحوّل الفكرة إلى ترف، والجهل إلى مهنة.
ويا للمفارقة؛ العقل الذي قامت عليه حضارتنا، ورفع لواءه الغزالي وهو يضع “المنقذ من الضلال” في مواجهة العمى الفكري، والجاحظ وهو يكتب بسخريته الماكرة عن الأغبياء والمضلّلين، والفارابي وهو يبتني “المدينة الفاضلة” على أساس عقلاني، وابن سينا وهو يعبر بين الحكمة والمكاشفة بروح رياضية وذهن متقد، هذا العقل اليوم منفيّ في زاوية مظلمة، لا سلطة له في البيت ولا في المدرسة، لا في الإعلام ولا في دوائر القرار، مطرودٌ من خطابنا الأخلاقي ومقصيّ من وعينا الجمعي، إلا حين نحتاجه كزينة لواجهة خاوية.
سار العقل في تراثنا أول الأمر كنبع هادئ لا يعرف الاستعراض، يتغلغل في الأشياء ويفتش عن جوهرها، حتى إذا نهضت حضارتنا كانت بفضل أولئك الذين آمنوا أن الشرع لا يناقض العقل، بل لا يُفهم إلا بالعقل. لم يرَ الغزالي تناقضاً بين الصوفية والمنطق، بل جعل العقل ركناً من أركان النجاة. ووقف ابن رشد من بعده ليُعلن في أوجه المتوجسين من الفلسفة: “العقل شرعٌ من داخل، والشرع عقلٌ من خارج”. هكذا تزاوج العقل والنقل، فاكتملت الرؤية، وانبنت المعارف.
أما اليوم، فالمعادلة مقلوبة. اللامعقول يصول في الواقع، فيُتخذ لاعب الكرة قدوة، ويُزيَّن الجهل بالألقاب، ويُقصى العارف ويُبجل التافه. تصدر القرارات من بطون غير مثقفة، وتُسنّ السياسات بلا مشورة، وتُدار مؤسسات تعليمية بلا تربية، وتُبنى مدارس لا تعترف بتلميذٍ كائنٍ من فكر وشعور، بل ككائنٍ يجب تلقينه كما تُلقّن الآلة أو الببغاء. يتعامل المسؤول مع العقل وكأنه عدوّ، ومع النقد كأنه خيانة. اللامعقول لم يعد استثناءً، بل صار قاعدةً مؤسَّسة، تسندها أموال، وتُروَّج لها خطب، وتُزيَّن بفكرٍ مستعار لا يعرف من العلم إلا قشوره.
ولأن العقل يرفض أن يُدفن حيّاً، ظل بعض المفكرين يوقظونه حيناً بعد حين، فيأتي أحدهم كزكي نجيب محمود، لا ليكتب فكراً بل ليخوض معركة. قالها من قبل: إننا نعيش تحت سطوة اللامعقول، حيث يتضخم التافهون ويتقلص أهل العقل، حتى يُخيَّل إلينا أن البلادة حكمة، وأن الارتجال حرية، وأن الفوضى إبداع. رفع نجيب لواء العقل في وجه العواصف، في زمنٍ باتت فيه الثقافة مرهونة للمال، والأفكار تُصنع حسب مقاس السلطة، والأكاديمية تبيع مقاعدها للأقوياء. لم يكن زكي كاتباً يجامل الواقع، بل كاشفاً لقبحه، ساخراً من “الميثاق” حين يصدر عن عقول لا تؤمن بالحق، وناقداً لتديّنٍ بلا علم، ولسياسة بلا أخلاق، ولهوية تتفتّت باسم الأصالة أو الحداثة.
آمن زكي، كما آمن من قبله فلاسفة التنوير، أن العقل هو الحارس الأوحد لكرامة الإنسان. ليس العقل آلةً جافة، بل نوراً ينفذ إلى الأعماق، لا يقف عند ظاهر الظواهر، بل يعبر إلى المعاني، يحاكم لا يصفّق، يُنقِّب لا يُسلِّم، يتساءل لا يكرِّر. وكان يدرك، مثلما أدرك “كانط” أن الحرية لا تنبت إلا في أرض العقل، وأن أي حديث عن ديمقراطية بلا احترام للعقل هو محض وهم.
لكن العقل وحده لا يكفي، ما لم تواكبه بيئة حاضنة. العقل لا يثمر في أرضٍ تقتل السؤال، ولا في مؤسسات تخشى الاختلاف، ولا في مجتمعٍ يسحق المبادرة تحت سنابك العرف. نحن نعيش تناقضاً مريراً: نلهج بالحداثة ونبني على تقاليد لا عقل فيها، نتحدث عن الحريات ونمارس القمع، نتباهى بالتعليم ونحتقر التفكير، نصنع تماثيل للعقل ونضعها في المتاحف، لا في ساحات العمل أو القرار أو التربية.
اللامعقول اليوم ليس فكرة ضبابية، بل نظام حياة، من الاقتصاد حتى الخطاب الديني، من التنشئة إلى الإعلام، من الشارع إلى الجامعات. والعقلُ، متى ارتضى لنفسه أن يصمت، سيتحول إلى شاهد زور، يسكت حين يجب عليه أن يصرخ. لا يجوز للعقل أن يكون حيادياً في زمن الجنون، ولا متواطئاً مع الذين يريدون له أن يصبح مجرد أداة للتبرير، لا أداة للتحرير.
ولهذا، فإن معركتنا اليوم ليست مع الماضي، بل مع الحاضر الذي يموّه ماضيه ويجهل ذاته. لسنا ضد التراث، بل ضد فهمٍ مشوَّه له، ضد أن يتحول إلى صخرة تسحقنا بدلاً من أن تكون جذراً يغذينا. لسنا ضد الغرب، لكننا ضد استيراد فكره بغير روح، كما نحذّر من أن نعيد إنتاج تخلفنا باسم الأصالة. لا بد من عقل يُحسن التمييز، لا يخلط بين الإيمان والخرافة، بين الحلم والوهم، بين الحرية والفوضى، بين التقديس والتفكير.
إن ميزان العقل واللامعقول ليس فكرة فلسفية مجردة، بل هو سؤال مصيري: أن نكون أو لا نكون. إما أن نعيد للعقل مكانته بوصفه قاطرة النهضة، أو نظل ندور في دوائر الوهم، حيث تُقاس الأمم بعدد أبراجها لا بقامات مفكريها، وتُكرَّم الأقدام وتُنسى العقول، وتُشيد الصروح فوق الرمال لا فوق الأسس.
آن لنا أن نستفيق، لا لنبكي على عقل مهدور، بل لنسترده من تحت الركام. فالعقل، إن أُطلق من أَسْره، لا يبني مدينة فاضلة فقط، بل يبعث أمة من رقدتها، ويصنع من جراحها جسراً إلى الغد.
