منبر العراق الحر :
تقع أركاديا في أقصى جهات الحلم ، وقد ولدت عندما سكنت أرواح البشر رغبة في اكتشاف ما فوق الرؤوس ، وكأنهم يرددون قولاً لأبي :ما فوق رؤوسنا ليس القبعة أو العقال ، ما فوقها من يراقبنا ونطلب مودته .
وقديما كان على الأنسان أن يتخيلَ أمكنةً في تلك الجهات التي لا تُرى سوى بمشاعر أجفانه ليصل اليها من خلال الأمل والخيال والتوقع بالنهاية الهادئة بعد حياة فقيرة أو متوسطة الحال هاجسها الخبز والعودة بسلام من جبهات الحرب.
واليوم قريبا من هذا المكان او بعيدا عنه تمتد الأهوار بخيال أجنحة القصب وتمايل الموج بخاصرة الماء ومشي قطعان الجواميس بإنضباط مموسق كعسكر الشرف في باحة جندي مجهول.
تسكنني أحلام تخيل شكل تلك الأمكنة التي نعتقد أنها القلاع والقصور العالية والمشيدة من البلور والرخام وتحيطها حدائق مزهرة بالورد والشجر والأرائك ، فيما تمتد البيوت التي سقوفها من القرميد الأحمر وهو يشكل في شهيته طقوساً من قبلات الغرام التي يتبادلها الملوك مع نعاس الكاهنات اللائي ينذرن شهواتهن وعاطفتهن لخدمة المعبد والملك.
مدن تحمل شهية خيال طافح كمهرة خلقتها الآلهة لتسابق رياح الحلم والخلود في أجفان الفقراء .
فقراء مدن الماء وتلك التي يعمرها الحجر وتعيش قرب ضفاف الأنهر أو حافات الصحراء لحنين البشر لشيء يتمنونه في منال رغبة الكأس أو الذهاب مع المشحوف الى أبعد نقطة في الماء لاكتشاف مستعمرات السمك واعشاش الطيور أو لقىً متروكة من أزمنة غابرة يأخذون منها تمائم الحظ أو يشربون بأوانيها النحاسية لبن جواميسهم أو يجمعون فيها دموع نحيبهم لأولئك الذين يغرقون في المياه .
كانت أركاديا أخت دلمون في التصور وإبنة عم وفيةٍ لجنة عاد ، لكنها لم تعد لصيقة أخيلة القصب وأحلام المعدان وأمراء سلالات أور ، بل صعدت مع سفينة نوح ووصلت الى طنجة ثم اغتربت في أمكنة شتى على خارطة العالم. وهي اليوم تكاد أن تكون مصطلحاً أمميا للحظة البحث والمغامرة للحصول على النشوة والمكان المنفي ، وكأنها سليلة مباركة لما تركه أفلاطون من مثاليات الروح والعيش في التعامل بين مدن جمهورية فاضلة.
خرجت أركاديا من بين دشاديش رعاة الجواميس وعباءات بائعات القيمر واللبن الخاثر وأردية كهنة المعابد المقدسة في المدن الأثرية الممتدة من أور الى حدود مملكة ميسان في الطيب والشيب وأهوار الكحلاء.
هنا أو هناك ، المهم أن أركاديا موجودة ، هاجس يحفزنا على خلق ما نشعر أنه النقاء الذي يذهب بنا الى قناعة إثبات وجودنا المتميز في التراث الإنساني لليوتيبيا ، وحتما الوجود المتميز لن تصنعهُ سوى أحلام الأنسان.
وأظن أن أمكنة مثل تلك تمنح الروح مساحة الطيران في الفضاءات الابعد حيث نمتلك حداثة الاكتشاف والتفكير والتحولات لنجعلها ملاذا آمناً ونقطة بدء للتواصل مع الغيب الذي نعتقد أنه وحده من يأخذنا الى المجالات الأخرى. كما في بدء السباحة في الرؤيا والضوء والممالك والمصانع ومسلات التشريع وجبهات الحرب وحانات الثمالة والغرام والموسيقى .
أركاديا هي في معناها الخفي ، الحاضر في كل حين ، تتجدد وتعيش وتلهو في مساحات رغبتنا لنكون. إنها المدينة المثالية للماضي والحاضر والمستقبل.
كل تلك الاخيلة طافت في فضاء اجفاني وكلماتي كما خيب تذكر شهية اللحظات التي نتمانها لتبعد عنا اذى الحرب ، وكنت اعتقد ان دلمون وعاد واركاديا هي من بعض تلك الطلاسم التي تستطيع ان تمنح روحي الهدوء والقناعة من ان الحرب سوف لن تؤذني ، لهذا كما هذيان كاهن كنت اتحدث عن المدينة او المكان او الجهة التي اسمها اركاديا وكان رفيقي الجندي عبيد ناموس مجهول يصغي مندهشا ويحاول ان يتخيل هندسة بوابة دكانه في جنة اركاديا ،وصار يرسل ابتسامات غامضة احسست فيها ان قصتي عن اركاديا ادخلته في لحظات غيب لذيذ.
قال مبتسما :اظن ان حكاياتك تكفي ، لم نعد نحتاج الى اغاني ساجدة عبيد..
انا ضحكت : وقلت هل استوعبت ما تحدثت فيه .
قال :تقريبا ، وبعض كلماتك تحولت الى صور . لا تنسى اني اكملت الدراسة المتوسطة ، وانا اقرا المجلات والصحف التي اجلبها ، ومع اركاديا ، سأستعير منك كتبك واقرأها ، فلعلي اجد المكان الذي افتح فيه دكاني في اركاديا الجميلة.
قلت : عبيد هي ليست بعيدة عن قراكم وبساتينكم ،ربما هي طافية في الاهوار القريبة او مندثرة في تلال رمل منطقة الخميسية القريبة منكم ،المهم ان اركاديا قريبا ،وعندما تعود وتنتهي الحرب كن منقبا وابحث عنها.
قال :سأكون مثلك وابحث عنها في خيالي ،فذلك اجمل.
