منبر العراق الحر :
اهل الأهوار بالنسبة لي مثل لعنة العشق في قصة روميو جوليت ، الغرام المستعر في نشيد حكاياتٍ لبشر هم أكثر عرضة للوجع الأنساني منذ عهود السلالات وحتى اليوم ، وعليَّ أن اتخيل الأسكندر المقدوني عندما فكر لينزل من بابل ليغزو المناطق الضحلة في ارض سومر لأنها اقرب الأمكنة التي توصله في بلاد فارس وهو يستمع لوصف واحدٍ من قواده لحياة اهل قرى الأهوار (( سُمرٌ ، وليس لديهم في الحرب سيوف ، بل عصا غليظة تقسم الهائمة لنصفين لأنهم يتعاملون مع نحاسة الجواميس ووحدهم من يستطيعون ترويضها وجعلها تغادر الماء الذي تعشقه ، لا يحبون الطب ، ولا يأمنون لغريب نظراته غامضة ، وقد لا توجد عندهم لهجة نفهمها لهذا يفضلون الإشارات مع الغريب ، ولكن فيما بينهم لهجة الكلام عندهم مثل الموسيقى ، لهذا يا مولاي ، من الصعب الذهاب اليهم ، ومن الأصعب ان نغريهم ليجيئوا إلينا ،لقد ولدوا على وسائد المياه وعليها سيموتون.))
هذا الموت في صورته القدرية يتسامى بإيقاع نشوة الأغنية الفرنسية ويمتزج معها إيقاع صوت القطار ، هو ذاهب الى باريس ونبض قلبي يلهج كما أنفاس طفل غريق الى قرى الأهوار ، هناك الضوء معادن ثمينة والقصب نايات حفل تنصيب ملوك الصين وأكد والبيوت التي تنتزع من الريح جبروتها ومن الليل شهوة الغرام الخجول وهو يؤطر ذاكرتي بذلك الإيواء الساحر وطفولتي وكتب المدرسة والحفاة وهم يفتعلون الدمعة من أجل أن يعفيهم آباؤهم من الذهاب مع قطيع الجواميس لأجل اكمال فروض المدرسة وكتابة الأنشاء الهائل الذي كتبه المعلم لتلاميذ الصف الخامس (( تخيل وجه كاترين دينوف قمرا واكتب عنه صفحة كاملة ))
ضحك الأطفال وسأل : من كاترين دينوف هذه.؟
رد تلميذ بجانبه : ربما هي تشبه تسواهن بنت عجيلة الحافوفة .
بين تسواهن وإيقاع الشهوة القرمزية في شفاه الممثلة الفرنسية يذهب القطار الفرنسي ( تاتلاس ) الى العمق الروحي لحضارة ذلك المكان ، وجه أيوب ونار أبراهيم وشواذ قوم لوط وسفينة نوح المصنوعة من خشب أعمارنا الطافية على مياه المحيطات في أساطير اللجوء السياسي والإنساني والعاطفي لنا نحن أجيال بورخيس وجيفارا وعبد الحليم حافظ وبدر الرميض شيخ عشائر آل بو صالح.
يسكنني الطريق أنا المهاجر في ذاكرة الزمن المنسي هناك، زمن العطش وشواء السمك على روث الحيوانات ، زمن الغرام الشهي لليالي شهرزاد وشبعاد والليل الأيقوني في مساحات وضوء وصلاة أباءنا الذين يعرفون إن الموت اقرب من الرمش الى النظرة لهذا فهم أكثر بشر في الطبيعة يقنعون بالقدرية المفاجأة ، ولهذا لا يرهبونها ، ويكفيهم زيارة واحد لمراقد الأئمة في كربلاء والنجف ( ع ) حتى يقتنعوا عن طيبة خاطر بأي طارئ لهم أو لأبنائهم.
القناعة القدرية القدرية لدى أهل الهوار تشبه صمود جيوش الإغريق أمام غزوات ملوك الفرس، تشبه صمود النساء في شهوتهم لدى غياب الذكور في جبهات القتال وسمفونيات المدافع ، لهذا هم أزليون في أدراك ذلك الإحساس بعمقه الديالكتيكي والميتافيزيقي ليسكنهم الحزن والفرح بذات اللحظة ونفس والمكان.
يمضي القطار…
يمضي نهر الفرات ..
يمضي نهر السين ..
وحياتنا واقفة عند تخوم الحلم بأن يكون أيواء موتنا القادم في ذلك القاع الطيني وليس في عيون الموناليزا.
أتخيل عبارة رامبو الهائلة (( من رقة الحس ضيعت أيامي )) . وأفتح نافذة لقراءاتي أيام الشباب واللهفة الهائلة لأتوسد وانا على سرير القصب أجساد ملكات وممثلات وعارضات أزياء فرنسا ، حتى إنني كنت أتخيل غضب ديغول على أمنيتي الريفية ويصفعني بقوة المستعمر وهو يقول: الجزائر لنا وأحلامك ايضا.
أضحك وأرد : الجزائر لكم نعم ، ولكن خدي أستعمره الإنكليز قبلكم..!
ضيعت أيامي وأريد أن أجمعها تحت برج أيفل واتمنى في حدائق قصر فرساي أن افترش لذة الشعر في حاسوبي واجلس على العشب الذي كان يمرح عليه ملوك آل بوربون وعشيقاتهم وأكتب نشيداً لحنين المعدان . امتدح فيه مشيَّ المعيديات ، وفخذيَّ اليزابيل أدجاني ، وعقال ويشماغ أبي ، لدغة الحرمس والبعوض ، وروايات صاحبة مرحبا ايها الحزن “فرانسواز سيغان “، والعطارون الجوالون في صباح القرى وطقوس المندائيين في شواطئ السحر في الكحلاء وقلعة صالح وسوق الشيوخ ، وانحناءة جاك شيراك أمام نصب الجندي المجهول في بغداد .
