*الصراع الإيراني-الإسرائيلي في ظل الفراغ العربي: قراءة في التحولات الجيوسياسية* ناجي الغزي

منبر العراق الحر :منذ عقود، شكّل الصراع العربي-الإسرائيلي محور التوتر المركزي في الشرق الأوسط. كما أدت اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، والتي تلت حرب أكتوبر 1973، تحول كبير في طبيعة الصراع العربي-الإسرائيلي، بعدها جاءت اتفاقيات أوسلو (1993) بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، والتي أسفرت عن إنشاء السلطة الفلسطينية. وبعدها ابرمت معاهدة وادي عربة، المعروفة باسم معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، التي وقعت في 26 أكتوبر 1994 ، هذه الأحداث أسهمت في تقليص المواجهات العسكرية المباشرة بين إسرائيل والدول العربية الكبرى. إلا أن العقدين الأخيرين شهدا تحولات عميقة في موازين القوى، أبرزها انسحاب العرب تدريجياً من ميدان الصراع، مقابل تصاعد دور إيران بوصفها الفاعل الأساسي في ما بات يُعرف بـ”محور المقاومة”. ومع تزايد التحالفات العربية – الإسرائيلية، يبرز سؤال مركزي: هل يمكن لإيران أن تُنهي وجود إسرائيل فعلياً؟ وكيف غابت الدول العربية عن مشهد كانت سابقاً تقوده؟
*أولاً: كيف تسعى إيران إلى تقويض إسرائيل؟*
رغم افتقارها لقدرات عسكرية تقليدية تعادل القوة الإسرائيلية، طوّرت إيران استراتيجية غير متماثلة تنبع من أربعة محاور رئيسية:
1-حروب الوكالة: نجحت إيران في تأسيس شبكة من الوكلاء المسلحين – حزب الله، حماس، الجهاد الإسلامي، الحوثيين – الفصائل العراقية المسلحة. تعمل ضمن عقيدة “الاشتباك الدائم” مع إسرائيل. هدفها ليس النصر الحاسم، بل الاستنزاف المستمر، وخلق جبهات متعددة تربك المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
2- التسلح الصاروخي والمسيرّات: تبنّت إيران مبدأ “الكم الاستراتيجي”، فبدلاً من السعي للتفوق النوعي، تكدّس صواريخ وطائرات مسيرة منخفضة التكلفة بكميات كبيرة تفوق قدرة أنظمة الدفاع الإسرائيلية مثل “القبة الحديدية” و”حيتس2 و3″ و” مقلاع داوود” ، وهو ما ظهر بوضوح في المواجهات مع غزة وحزب الله والحوثيين.
3- الحرب النفسية والشرعية: تركز إيران على نزع الشرعية الأخلاقية والسياسية عن إسرائيل من خلال خطاب “المقاومة ضد كيان مصطنع”، متكئة على تنامي الخطاب المناهض للصهيونية عالمياً، خصوصاً في الأوساط الأكاديمية واليسارية الغربية.
4- التوسع الجيوسياسي: استغلت إيران انهيار النظام السياسي في العراق، وبناء علاقات استراتيجية مع النظام السياسي الجديد وكذلك سوريا، واليمن، لتُحكم طوقاً جغرافياً يهدد إسرائيل من الشمال (لبنان وسوريا) والجنوب (اليمن عبر مضيق باب المندب). حادثة احتجاز السفينة الإسرائيلية من قِبل الحوثيين ليست إلا مثالاً لهذا التمدد.
*ثانياً: لماذا تراجع العرب عن القضية الفلسطينية؟*
شهدت المرحلة المعاصرة انكفاءً عربياً ملحوظاً عن دعم فلسطين، نتيجة مجموعة من العوامل المعقدة:
1. الارتهان للغرب: العديد من الأنظمة العربية باتت تعتمد على واشنطن في الأمن والاستقرار الاقتصادي، ما جعل مواقفها السياسية رهينة الحسابات الأمريكية، ومنها ملف التطبيع مع إسرائيل.
2. الانقسامات والصراعات: تفاقم الانقسام السني-الشيعي، والأزمات الإقليمية (كالأزمة الخليجية)، أنهك الموقف العربي الجماعي، وأزاح القضية الفلسطينية عن أولويات القمة العربية.
3. فشل المشروع القومي: بعد هزائم 1967 و1973، تراجع حلم “الوحدة العربية” ليُستبدل بحسابات محلية ضيقة تتمحور حول بقاء الأنظمة لا مواجهة إسرائيل.
4. تشويه الخطاب الديني: استُخدم الدين كأداة للفرز الطائفي بدلاً من الحشد ضد الاحتلال. ففي الوقت الذي رُوّج فيه لخطاب “تكفير الشيعة”، اختار الكثير من العرب الشيعة (في العراق، واليمن) التحالف مع إيران، لا مع أنظمتهم.
*ثالثاً: لماذا اختارت بعض الدول العربية التطبيع مع إسرائيل؟*
جاءت اتفاقيات التطبيع الأخيرة، خاصة “اتفاقيات أبراهام”، في سياق إقليمي ودولي مضطرب:
1. ضغوط اقتصادية خانقة: واجهت دول الخليج ومصر والأردن تحديات اقتصادية دفعتها لفتح آفاق التعاون مع إسرائيل من بوابة الاقتصاد والتكنولوجيا.
2. التهديد الإيراني: اعتبرت السعودية والإمارات والبحرين أن الخطر الإيراني يفوق الخطر الإسرائيلي، وهذا المبرر المفتعل جعل التحالف مع تل أبيب خياراً استراتيجياً لمواجهة تمدد طهران.
3. غياب القيادة الموحدة: لا توجد اليوم قيادة عربية تُلهم أو تقود موقفاً موحداً تجاه فلسطين، بل ثمة محوران متضادان: الأول يناصر المقاومة بقيادة إيران، والثاني يروّج للسلام مقابل التنمية، برعاية أمريكية.
*رابعاً: كيف ملأت إيران الفراغ العربي؟*
سقوط الأنظمة القومية أو انكفاؤها، ولا سيما في العراق وسوريا ومصر، فتح المجال أمام إيران لتتمدد استراتيجياً:
1. بعد غزو العراق 2003، تحولت بغداد من حاجز أمام طهران إلى بوابة نفوذها نحو سوريا ولبنان.
2. دعم الجماعات المسلحة أتاح لطهران بناء “جيوش غير رسمية” على حدود إسرائيل، تملك قدرة نارية وشرعية اجتماعية، لم تعد متوفرة لدى الجيوش العربية.
3. تراجع دور مصر بعد معاهدة كامب ديفيد، وتحوّلها إلى وسيط محايد، منح إيران مساحة للتحرك في قلب بلاد الشام واليمن، حيث الفراغ العربي بات هو القاعدة.
*خامساً: هل تحوّل الصراع إلى مواجهة إيرانية – إسرائيلية؟*
نعم، الصراع في الشرق الأوسط يتجه شيئاً فشيئاً نحو مواجهة مباشرة (لكن غير شاملة) بين إيران وإسرائيل، ولكن ضمن حدود محسوبة ومقنّنة من الطرفين، تُدار عبر “الوكلاء” و”الضربات الذكية”، وليس من خلال حرب شاملة مفتوحة. جعلت إيران من العداء لإسرائيل عنصراً جوهرياً في هويتها الثورية وشعارها الإيديولوجي.
• لم تعد الجيوش العربية تهدد إسرائيل، بينما تحولت الجماعات المدعومة من إيران إلى قوة ردع فعليّة كما هو حال حزب الله، وأنصار الله في اليمن.
• باتت الضربات الإسرائيلية تركز على مواقع إيرانية أو مرتبطة بإيران في سوريا ولبنان واليمن، ما يؤكد انتقال الصراع من “عربي-إسرائيلي” إلى “إيراني- إسرائيلي”.
خلاصة القراءة: تكشف المعطيات أن إيران لا تسعى لمواجهة تقليدية مع إسرائيل، بل لتقويضها تدريجياً عبر استراتيجية غير متماثلة، تعتمد على حروب الوكالة، الضغط النفسي والدولي، وتوظيف الجغرافيا والهوية. مقابل ذلك، يشهد العالم العربي تراجعاً استراتيجياً واضحاً عن مركزية القضية الفلسطينية، لصالح مصالح محلية وتحالفات أمنية واقتصادية مع إسرائيل. وبذلك، تنتقل المنطقة إلى مرحلة جديدة يُعاد فيها رسم خريطة التحالفات والصراعات، يكون فيها مستقبل فلسطين مرهوناً بفاعلية محور المقاومة، أو بانهياره تحت ضغط التحالفات الإسرائيلية-العربية.

اترك رد