منبر العراق الحر :
في زمن تتسارع فيه الرياح وتضطرب فيه البحار، لا تنجو سوى السفن التي يديرها رُبّان يعرف وجهته، ويُحسن قراءة العاصفة. وهذا ما يبدو عليه المشهد اليوم بين العراق والسعودية ، وهما ترسيان معاً أُسساً جديدة لعلاقة لا تكتفي بأن تكون ثنائية فحسب، بل تنبع من الحاجة الإقليمية إلى اتزان القوى، وتعويض الخراب السياسي بصوت الحكمة، وترميم الجسور لا تفجيرها.
ما بين بغداد والرياض، ليست المسافة جغرافية فقط، بل هي أيضاً مسافة في الرؤية، وسياق في التاريخ، وتجربة في تجاوز الخلافات. ومن كان يتابع خطوط التوتر القديمة، يدرك أن ما يحدث اليوم ليس مجرد تنسيق ديبلوماسي، بل نقلة نوعية في عقل الدولة لدى الطرفين. العراق، الذي يخرج رويداً من متاهة الاحتلال والطائفية والانقسامات الداخلية، وينتقل إلى التنمية والبناء، يرى في السعودية قوة استقرار ومركز ثقل لا غنى عنه. أما السعودية، التي عُرفت بسياسة النفس الطويل والقدرة على تدوير الزوايا، فتجد في العراق شريكاً ناضجاً يعيد إنتاج نفسه خارج أطر الصراع والانقسام.
لقد أثبتت الأسابيع الأخيرة، ولا سيّما بعد اشتعال الحرب بين إيران وإسرائيل، أن لحظة الحقيقة لا تصنعها الشعارات، بل تُبنى على الاتصالات والقرارات الصامتة. فعلى وقع القصف المتبادل والانزلاق الخطير الذي كاد يجرّ المنطقة بأسرها إلى حرب غير محسوبة، تحرّك العراق دبلوماسيًّا ليكون صمّام أمان. فقد أجرى دولة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني اتصالات مباشرة مع بعض الأطراف الدولية والإقليمية، في مسعى لنزع فتيل الصراع واحتواء الموقف. وفي السياق نفسه، جاء الاتصال المباشر بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ودولة الرئيس السوداني، حاملاً أكثر من رسالة: أولها أنّ باب الحوار لا يزال مفتوحاً، وثانيها أنّ التنسيق في لحظة الأزمة يعكس عمق الثقة بين القيادتين، وثالثها أنّ البلدين اختارا لعب دور عقلاني، لا يتغذّى على الأحقاد أو الانحياز الأيديولوجي.
ولم يكن هذا التنسيق حدثاً معزولًا، بل ثمرة مسار طويل من بناء الثقة المتبادلة. فمنذ إعادة فتح السفارة السعودية في بغداد عام 2015، بدأت ملامح خارطة تعاون جديدة تتشكل، لم تقف عند الاقتصاد والتجارة، بل تعدّتهما إلى الأمن، والطاقة، والثقافة، بل وحتى المجال الديني، حيث جرى العمل بهدوء على تجسير الفهم المشترك لمفهوم الإسلام الوسطي، بعيداً عن خطاب الكراهية أو التوظيف السياسي للعقيدة.
وفي الأفق الأوسع، تكشف هذه العلاقة عن تحوّل جوهري في العقل الاستراتيجي العربي: فلم يعد المشرق العربي مجرد ملعب لقوى خارجية، بل هو اليوم في طور استعادة زمام المبادرة. حين تتحدث بغداد والرياض بلغة واحدة، يصبح للاعتدال معنى، وللمبادرة السياسية وزن، وللمنطقة فرصة. كلا البلدين يدرك أن أمنه لا يصان عبر العزل، بل بالشراكة، ولا يُفرض بالقوة، بل بالحوار. وهذا ما بدا جلياً في المواقف المشتركة التي عبّر عنها الطرفان في المحافل الدولية، وفي الرسائل التي وصلت إلى واشنطن، وطهران، وتل أبيب، مفادها أن النار يجب أن تنطفئ قبل أن تلتهم الأخضر واليابس.
اقتصادياً، لا تقل المؤشرات دلالة. فالعراق، الذي يملك موارد كثيرة يعمل الآن على استثمارها، ويزخر بطاقات شابة واعدة، ويحتاج إلى إعادة إعمار شامل، يمثل هدفاً مثالياً لتعاون طويل الأمد. أما السعودية، برؤيتها 2030، فهي تبحث عن أسواق واعدة وشراكات تستثمر فيها فائض قوتها المالية والبشرية والتكنولوجية. وقد بدأت هذه الرؤية تُترجم فعلياً من خلال مشاريع الربط الكهربائي، ومجمعات الطاقة الشمسية، والاستثمارات الزراعية والصناعية، والشراكات الجامعية والثقافية، التي تجعل من العلاقة بين البلدين أكثر من مجرد استيراد وتصدير.
أما على المستوى الأمني، فإن العراق بات اليوم أكثر حرصاً على بناء منظومة أمنية متوازنة، تضمن عدم تحوله إلى ساحة صراع إقليمي كما كان يُخشى في السنوات الماضية. ومن خلال الحوار الأمني المشترك، ومذكرات التعاون الاستخباري، والتنسيق الحدودي، بات من الممكن القول إن الجارين يسهمان معاً في إعادة صياغة مفهوم الأمن الإقليمي ليكون تعاوناً لا تصادماً، وتنسيقاً لا توريطاً.
لكن العامل الأهم في هذه العلاقة يكمن في المساحة الأخلاقية والسياسية التي يمنحها الطرفان لبعضهما. فالعراق يتعامل مع السعودية على قاعدة الندية والشراكة، كما أن المملكة لا تفرض شروطاً مسبقة على بغداد. بل على العكس، هناك نوع من التقدير المتبادل، يستند إلى الاعتراف بالسيادة والخصوصية، وإلى إيمان مشترك بأن ما يجمعهما أكثر بكثير مما يفرقهما. وهذا ما عبّر عنه دولة الرئيس السوداني غير مرة، حين أشار إلى دور السعودية في دعم استقرار العراق، سواء عبر الجامعة العربية أو من خلال الدعم الهادئ غير المعلن.
كما لا يمكن إغفال البعد الثقافي لهذه العلاقة، والذي يتجاوز الطقوس الرسمية. هناك اليوم انفتاح سعودي على الأدب والمسرح العراقي، واهتمام عراقي متزايد بالإنتاج الثقافي السعودي، سواء عبر القنوات الإعلامية أو عبر التبادل الأكاديمي. وفي هذا المستوى غير الرسمي، ينمو حوار ناعم، لكنه مؤثر، يُعيد ربط ما انقطع بفعل سياسات الماضي وخطاب الكراهية الذي روّج له المتشددون في الطرفين.
إن العراق والسعودية ، حين ينسقان، لا يدافعان فقط عن مصالحهما الوطنية، بل يرسلان إشارة للعالم بأن العرب قادرون على ترتيب بيتهم بأيديهم، من دون وصاية، ومن دون إملاءات. ولعل أهم ما يميز هذه المرحلة أن لغة الاتهام اختفت، وحلّ محلها منطق “كيف يمكن أن نربح معاً؟”، وهو تحول عميق، لا يصنعه إلا قادة يمتلكون الشجاعة، ويعرفون كيف يُخرجون التاريخ من عقده القديمة.
ومع اقتراب المنطقة من استحقاقات إقليمية جديدة، تتعلق بمستقبل سوريا، واليمن، ولبنان، بل وربما خارطة التحالفات الإقليمية ذاتها، فإن استمرار هذا التنسيق بين بغداد والرياض قد يتحول إلى حجر زاوية في معادلة الاستقرار. لا لأن الطرفين قادران على فرض حلول، بل لأن وجودهما في دائرة التفاهم يجعل من الحروب أقل احتمالًا، ومن الحلول الوسط أكثر واقعية.
ربما كانت المعادلات القديمة تقول إن العلاقات العربية تُبنى على “ردّ الفعل”. لكن ما يفعله العراق والسعودية اليوم هو العكس تماماً: بناء علاقة تقوم على “الفعل الاستباقي”، وعلى صياغة هوية مستقبلية لا تعيد إنتاج الأزمات، بل تديرها بعقل بارد وإرادة دافئة. يمكن القول بثقة إن ما بين بغداد والرياض ليس مجرد تنسيق سياسي عابر، بل تجربة متكاملة في التفكير المشترك، تبدأ من الأمن ولا تنتهي عند الاقتصاد. وبين القيادتين، حديث لا تسمعه الضوضاء، لكنه يُصغي لصوت الشعوب، ويشتغل على صناعة سلام عربي مختلف، يقوم على الفهم لا الانقسام، وعلى الاحترام لا على المصالح الضيقة أو الحسابات الآنية.
