منبر العراق الحر :
في غربتي عندما ابتعدت ليالي ربيع الأهوار، وعندما كان خبز (التمن) غذاء البطن، والأغاني غذاء الروح، وحتى نبعد عن أجفاننا (هومسك) البعد والحنين إلى هناك، نلوذ بالأغاني كما تلوذ الحمامة بين الماء والطين في واحدة من أجمل صور الشعر في دفاتر الجواهري. فأمسك صوت وردة الجزائرية ولميعة توفيق وحضيري وداخل حسن ، وأستحضر في الوجد البعيد حنين المسافة لأكون هناك في ذلك السحري أرسم وشم النظرة على جسد الليل، وأتخيل تلك اللحظات التي نهيم فيها ونحن نحاول إبعاد شجن الأغنية عن شخير النائمين من تعب إعادة الجواميس إلى حظائرها. هُناك في المدن الشرقية الخضراء كما طحالبَ سعالَ الآباء في مناجم الطين. يحتاج الفقير إلى أغنية ودخان والمستعمر ليس نبياً إنه يأوينا في سفرنا عن أمكنة أحلامنا المائية، ولن يكون كما الهنود الحمر، هناك تشابه في قدرية البنادق والخنجر اللامع شرف قبيلة كما شرف الثمل أن يترنح قرب بئر النفط ويكون كريماً جداً…
الراقصةُ تكتبُ الشِّعرَ بخاصرتها وفقراء قرى المعدان يكتبون الشعر بعافية جواميسهم. بين الشرق الجنوني وأمريكا الجنوبية.
هناك الأنبياء يتحسس الأعمى في أجفانهم نشوةِ البصيرة المظلمة……..!
ولدت الأغاني عندما ولدت حاجة البشر للتخلص من الضجر والذهاب إلى أمكنة يحلمون الوصول إليها دون الحاجة لركوب فرس، فكانت أول بساط ريح يركب الغيوم ووفده الموسيقا في دمجها بدهشة الكلمات، فتتمخض ذلك عن نشيد يخرج من القلب قبل الفم أو وتر القيثارة.
هذا هياج أرواحنا عندما نبتعد عن مدن الأغاني التي تورثنا مشقة الحنين، وذلك التفسير السريالي لهاجسها على لسان موظف الخدمة في مدرستنا.
– الأغاني سعالنا الذي نتمناه يوم لا يصيب صدورنا البرد و(النشله).
أضحك وأقول: ربما أجدادك السومريون يفكِّرون بمثل ما تفكر فيه أنت، لهذا اخترعوا قيثارات الغناء.
هو لم يسمع بالقيثار، ولم يره في حياته وتخيله صفيحة الدهن الذي تضرب عليه النساء في مواكب الزفاف.
قلت: لا شبه بينهما.
ذهبت إلى غلاف مجله لعازف غجري إسباني يمسك قيثاراً. وقلت: هذا.
قال: هذا لا يصلح عزفه هنا.
قلت: لماذا؟
قال: لأن صداه يضيع خافتاً بين غابات القصب، صوت (التنك) يصل إلى الجبايش.
ضحكت. أتذكر الآن أغنيات صفائح السمن النباتي، وأتمنى أن أذهب هناك وأدندن بأغنية حنين قرب قبر شغاتي. لكني أدخل في شوق الحنين السريالي عندما أشتهي أن أسمع أحمد عدوية، وفي نفس الوقت أقرأ قصصاً لبورخيس: لا شيء هذا مطربٌ شعبي وبورخيس رائية من النوع الإسباني، كتبَ قصة عن الخنجرِ والشرفِ وألف ليلةٍ وليلة، فيما أحمد عدوية إذا جردتهُ من صوتهِ، فلن يكون سوى بخاخاً للربو.
المعدان لم يسمعوا فيه بحياتهم، ولكن صعايدة مصر يحبونهُ والمهربون من بدو سيناء وقوارير آخر الليل في شارع محمد علي، فتلك دائرتهُ الانتخابية فيما عيون بورخيس التي لا ترى مساحة الحلم فيها قبعة جيفارا، وقرى الأمازيغ وبيت عشيقة مطرب المعدان جلوب العماري…
القصد عندما تفتشُ في الرؤيا عن هاجسٍ لا تظنه أغنية وتطربُ لها افترضهُ امنيات وأغنيةً..!
