منبر العراق الحر :
تقلبني الأفكار كسمكة مقلية في زيت مسعور ببهارات هندية ، الروح تستشيط غضبا والعقل يدس في جيبها حبات المورفين التي عجزت عن إيقاف الألم ، فالروح حينما تغتلي بعصف من الأفكار لا أحد يستطيع الوقوف بوجه عتيها ، الجسد شبيه بمقبرة تحاول وأد الأفكار ، الأفكار غليان لايمكن قياس درجته ، العقل هو الوحيد الذي يسافر وينفَذُ حتى في مسامات الزجاج ، الزجاج خال من المرونة لذا فهو الوحيد الذي يتحطم ، مطية العقل خيال وراحلته بساط من الريح لا تحتاج إلى حبال يجوب العالم شرقا وغربا ، يتحدث مع الأشجار ، يردد أناشيد العصافير ، يصنع أدوات للجريمة كيفما يشاء ، ويقتل ما يشاء فلا شرطة تلاحقة ولا محكمة تصدر حكما باعتقاله ، ولكنه يخشى المخاطر التي تحوفه ، فالتوغل في ارتكاب الخطايا يسبب عطبا في أسلاك الخلايا وعندها تحل عليه اللعنة ، لعنة العقل هو إحساس دائم بوجع الجريمة وتأنيب الضمير .
ولكن هل ما يقوم به المجرمون من قتل وسرقة واغتصاب هو بدافع الحاجة إلى المال ؟ أم أن هناك أسباب أخرى تدفع ذلك الشخص لارتكاب مثل هذه الأفعال ، وهل أحد منا يستطيع الوقوف على هذه الأسباب ؟ أليس الظلم من شيم النفوس ؟ كما يقول المتنبي ،طالما النفس ملهمة بالفجور والتقوى ، فالذين يمارسون التقوى يتقربون إلى الله والناس ، والذين يمارسون الفجور ، يتقربون إلى مَن ؟ ربما هو تقرب إلى النفس لتحقيق ذاتها ، وهذا هو التداني بعينه ، فهل خلق الإنسان لكي يبقى إنسان على ما هو عليه الآن ؟ أليس هذا يناقض التطور الذي أدى بنا الى هذه الخلقة ، فإذا كان الإنسان حقا تطورَ أو تحولَ من حالة الى حالة كما يقول دارون بنظريته “أصل الأنواع” هل يصاحبها تحول في النفس ؟ هل تتطور كما هو التطور في الخلقة ؟
الدين يحدثنا “لابد هناك من نفخة ” تلك هي التي سمت بالنفس ، ولولاها لبقي الحيوان حيوان مهما تعددت خلقته أو تطورت ، لذا فالإنسان هو تلك النقطة التي بين شدّين أحدهما يجرجره نحو الأعلى والآخر نحو الأسفل وما من أحد سيبقى في المنتصف فأما السمو أو الدنو ، فليس هناك من حرب عالمية بين معسكرين كتلك التي تدور رحاها في هذا البدن النحيف ، نتائجها علو أو دنو وليس يمين أو يسار فالإستواء ليس كالأرتفاع والإنخفاض .
عادت له تلك الفكرة من جديد ،أخذ يبحث فيها عن أسرار وخوافي الجريمة ، فكر أن يتحرى عنها بنفسه وعليه أن يقوم هو لا غيره بارتكاب الجريمة ، ولكن كيف يفعل ذلك وهو الذي لا يستطيع أن يسحق دودة على الأرض ، عاد إلى غرفته وأخذ يفكر لينتهي به المطاف بارتكاب الجريمة في أحلام يقظته، أطفأ ضوء الغرفة ، غالقا عينيه ، فكل حلم إن كان في اليقظة أو في المنام لابد من أطباق الجفون فإغلاق الجفون ليس دليلا على النوم إنما هو أحيانا اطلاق العنان لذلك الخيال ، ولكن بأي جريمة يبدأ ، السرقة ، القتل أم الاغتصاب ، فراسكولينوف سرق من أجل الإصلاح فاضطر لقتل أشر الناس ، تلك العجوز المرابية .
راقت له فكرة الاغتصاب وأخذ يبحث في عوالم المدينة عن صيد دسم حتى حطت قدماه أمام شقة عروسين قدِما تواً من حفلة عرسهما ، نظر من النافذة إليهما وهما يتعانقان ويتحدثان عن فصول عشقهما ، لم يصعب عليه الدخول ، فخيال العقل قد صنع له أحدث الأقفال ، وقف أمام السرير وقال لذلك الشاب الأنيق الذي لم ينزع ربطة عنقه بعد” إنك لا تساوي شيء ولا تستطيع حتى الدفاع عن نفسك” بعد أن شهر سكينا يتطاير من حافتها شرار الموت ثم نظر الى عروسه قائلا لها وهي ترتجف : اربطي يديه وقدميه على السرير ثم قفِ هناك أمام المرآة ، تقدم نحوها شيئا فشيئا، مزق ثوبها الأبيض بتلك السكين وربط يديها باتجاهين متعاكسين على خطين بمستوٍ واحد وأخذ يعبث بها بما يرضي غرور نفسه ، وبعد أن سالت منها الدماء قال لعريسها الآن سهلت لك المهمة فلا يليق بمثلك فك بكارة عذراء كهذه العروس ثم دار وجهه وخرج من نافذة الزجاج ، عاد إلى غرفته التي لم يغادرها وانتظر إشعارا من داخل نفسه يوضح له الأسباب التي يبحث عنها ، خرج إلى حديقة الدار ونظر إلى الشمس التي آلت الى مغربها ، فالمشرق والمغرب ما بينهما حافة كخط إلتقاء ظهرين لا ينظران ما ورائها انما ينظران الى ذلك التقابل البعيد ، شعر بمرارة تدور في لسانه وكأنه يلعق دما ، تذكر صاحبه الذي كلما أرهقه الفقر يحلم يقظا بالعثور على مليون دينار ، يأكل في أرقى المطاعم ويعطي ما تبقى لأصدقائه الجائعين ، وعندما يصحو من حلمه يشعر بالشبع ويفرح بما قام به من سخاء وكرم إنه بتلك الأحلام يبدد سأمه ويسكت جوعه .
اضطجع على فراشه ، أراد أن ينام لكن مشهد الجريمة أخذ يلاحقه حتى أعياه الأرق ، ما أن هوّمت عيناه حتى جاءت له تلك العروس بعينين ذابلتين غارقتين بالدموع التي أكلت كل رموشها الناقعتين بمكحلة السواد ، تشكو هروب حبيبها الذي لم يستطع أن ينظر الى عينيها التي طالما سافر في بحر صفائهما الى أجمل مدن الأحلام ، فزّ مرعوبا ولم ينم حتى الصباح .
“هل يأتي حلم اليقظة في المنام ؟ وكيف؟ ولماذا الآن؟ هذه المرارة التي كست لساني ، لماذا لم يتطهر منها فمي ؟ وهذا الحزن الذي اعتراني ، هل سيؤول بي الى الذبول؟ ولمَ كل هذا القلق؟ إنه مجرد حلم يقظة علام كل هذه الافكار الموجوعة ؟”
لم يستقر في جلوسه على السرير ، انحنى على ركبتيه ثم نهض متعجلا، لبس ملابسه وأخذ يدور في أروقة بيته ، تذكر الشارع والشقة التي شهدت جريمته في ذلك الحلم اليقظ ، ركب سيارته وذهب مسرعا ، إنه هناك ، العمارة يعرفها جيدا انها هي هي ، ما أن نزل من سيارته ووصل تلك العمارة حتى رأى الشرطة والناس تحوم حولها ، أخبره أحدهم ؛ أن لصا اغتصب زوجة عريس في ليلتهما الأولى أمام عينيه وما أن اختفى ذلك اللص حتى طعن نفسه بسكين ما زالت منتصبة في قلبه.