بين الكاتب والقارئ …..ريم شطيح

منبر العراق الحر :
كما تختلف الكتابات والنُّصوص باختلاف كُتّابها وتوجّهاتهم ومستوياتهم الأدبية والفِكرية؛ تختلف القراءات من قارئ لآخر تِبعاً لمستوى القارئ الفِكري والثقافي وقدرته على التعمُّق وقراءة ما بين السطور ومحاولة فكّ رموز النَّص. فبرغم دور الكاتب المهم باحتواء القارئ وبإيصال فكرته له/ا بوضوح وسهولة وبأسلوب سَلِس ومباشر وهو مَطلَب وضرورة من ضرورات الكتابة؛ إنما ليس كل قارئ قادر على الوصول لفحوى النَّص والإرتقاء به أو معرفة الهدف الذي يريده الكاتب، وهنا يأتي دور القارئ تحديداً؛ فأمام الكلمات لا يتساوى الجميع.
فالكتابة عِلْم وفَن وإبداع ووسيلة للتعبير وباب للمعرفة والمعلومات، لكن أيضاً للقارئ دوراً مهماً جداً للكاتب والذي لا يقل أهمية – أحياناً – عن النَّص. القارئ برأيي شريك الكاتب في كل ما يكتب وليس فقط مُتلقّي؛ هو يُساهِم بِتحويل النَّص إلى قيمة فِكرية ووجدانية وهو المادة المُتفاعِلة الحَيّة مع الفكرة والنَّص بعد الكاتب؛ وإلاّ فما نَفع الكِتاب الذي لا يُقرَأ!! أي أنّ الكتابة والقراءة حالة تَشارُكية بامتياز، وبين القارئ والكاتب علاقة تبادُلية لا يمكن الإستغناء فيها عن أحدهما.
يقول پول أوستر “إنّ القارئ هو الذي يخلق الكِتاب في آخر المَطاف”! وهنا أقول أنّ هذه الفكرة صحيحة رغم أنها جدَلية بامتياز؛ فالكاتب يكتب لينتهي النَّص بين يديّ قارئ ما، والتفاعُل بين القارئ والنَّص هو التفعيل الحقيقي للفكرة Activation، وإلاّ تبقى الفكرة حَبيسة النَّص وعقل الكاتب فقط. لأنّ الكاتب يطرح فكرته من منظور فِكري معين، والفكرة هي حالة يُقدّمها الكاتب ويتلقّاها القارئ ليتفاعل معها ويستثمرها، وبين هذا المُثلّث تدور النتيجة. وما يُثري النَّص أو الفكرة هو عندما يقوم كل شخص بتحليلها ضمن منظوره الفِكري والثقافي والذي يختلف أحياناً كثيرة عن المَرجعية الفِكرية والثقافية للكاتب نفسه. بالتالي قد يُطرَح السؤال التالي مَن أهم في هذه الحالة الكاتب أم النَّص أم القارئ؟ والجواب هو أنه ليس الموضوع مَن أهم مِن مَن بِقدَر ما هو موضوع معادلة مشتركة من هذه العناصر مع بعض قد تُفضي لنتائج مهمة جداً تُساهم بالدور الثقافي للمجتمع وللثقافة نفسها.
بالمقابل، تزداد مهمة الكاتب والمسؤولية الفِكرية والثقافية المُلقاة على عاتقه في دوره بتثقيف الشارع، ويرى البعض أنه مسؤول عن احتمالية عدم فهم القارئ لكتاباته، وهنا أقول أنّ الكاتب مهما بَسّطَ في أسلوبه فهناك مستوى معين للنَّص الأدبي لا يجب التنازل عنه أو التراجع به فهذا يُسيء للّغة وللكتابة كحالة إبداعية بحدِّ ذاتها فالإبداع مُلازِم للكتابة وعامِل جاذِب للقارئ – أحياناً – بغض النظر عن الموضوع المَطروح. فالكتابة مادة جميلة للإستمتاع أيضاً وقيمة إبداعية وليست فقط مادة للمعلومات ولا حتى للإستعراض اللّغوي البهلواني؛ ففي كثير من الأحيان الإبداع يكمن في توصيل الفكرة بطريقة سَلِسة وبسيطة. إنّ على الكاتب أن يُراعي المستويات المختلفة للقارئ ويحاول التركيز على توصيل فكرته بطريقة واضحة بعيدة عن التّعقيد اللغوي، لكن هذا لا يعني أن يكتب بلغة الشارع كي تصل رسالته وإلاّ فأين قيمته الفِكرية والإبداعية والثقافية للثقافة نفسها!؟ مُراعاة ثقافة القارئ شيء والهبوط بالمستوى الأدبي والفِكري والثقافي شيء آخر!
ولهذا فإنّ مهمة الكاتب الإرتقاء بالقارئ لمستوى ثقافة الكاتب والنَّص معاً وحَثّ القارئ على الرغبة في المعرفة وبأن يكون بمستوى الطرح والنَّص، فكما قال ماركس “إن شئتَ أن تستمتعَ بالفن؛ عليك أن تكونَ شخصاً يمتلك ثقافة فنية”. من هنا، فأنْ يسعى القارئ لتثقيف نفسه ليكون حاضراً وعلى مستوى من هذه الشراكة مع الكاتب لهو أمر مهم وإيجابي للطّرفين، فالرغبة بالمعرفة والثقافة هي رغبة ذاتية وتأتي نتيجة مجهود شخصي وليست مسؤولية الكاتب فقط.
من جهةٍ أخرى، هناك من يقول أنّ لا علاقة للقارئ مع الكاتب؛ علاقة القارئ مع النَّص فقط! وهنا أقول: لا يمكن فصل النَّص عن الكاتب حتى لو أمامنا نَصّ لا نعرف كاتبه، فالقراءة تَلاقي بين عقلَين و روحَين بمشاعر ورُؤى وأفكار وليست مادة جامدة كالطعام تنتهي بانتهاء عملية الأكل. النَّص يحمل روح الكاتب؛ إحساسه، أفكاره، وأسلوبه، وهذا ما يرسم شخصيّته في ذِهن القارئ ومُخيّلته فيشعر بعد فترة من القراءة أنه باتَ يعرف الكاتب معرفة شخصية وهذا برأيي يُعزّز رغبة القارئ بقراءة المزيد والمتابعة لذلك الكاتب. فالعلاقة بينهما علاقة شَراكة والكاتب هو قارئ أيضاً وباحث ومُهتَم بكل القضايا وبالقارئ نفسه وبالجمهور وليس مُنفصل عنهم كما قد يظن البعض أنّ الكاتب يقطن في برج عاجي أو هناك أيضاً مَن يضعه في مَنزلة أرستقراطية خارج الحدَث ونَبض الشارع! بل برأيي إنّ الكاتب من الشعب وإلى الشعب يكتب وليس فقط للنُّخبة، ومعظم الكُتّاب طرحوا وعالجوا مشاكل المجتمع من خلال كتاباتهم وكانوا الأقرب للشعب والطبقة المُغيَّبة من غيرهم والأمثلة كثيرة؛ منهم مَن دفعَ حياته ثمن أفكاره وكتاباته، بعضهم سُجِنَ وحورِبَ واضطُّهِدَ بسبب كتاباته عن معاناة “الشعب” والشارع!
إذاً العلاقة تشارُكية بامتياز وليست علاقة من طرف واحد، وليس الكاتب ببعيد عن القارئ على الإطلاق بل قد يكون هو الأقرب للقارئ والأكثر تعاطُفاً مع همومه خاصةً عندما ينطق الكاتب بلسان حال القارئ ويُعبّر عن أفكاره. لكن في الوقت نفسه ليس بالضَّرورة أن يتمّ التوافُق بين القارئ والمادة بشكل كامل؛ المهم برأيي هو ما يملك هذان الطرفان “الكاتب والقارئ” معاً من عمق و وعي وقدرة على احتواء الموضوع والغوص فيه لطرحه بأفضل شكل من قِبَل الكاتب أولاً، ولعدم اللجوء سلباً للنقد فقط من قِبَل القارئ ثانياً. فضلاً عن أنّه لا يعني بأيّ حال من الأحوال أنّ الكاتب دائماً على صح فيما يقول، هو يطرح أفكاره للنقاش والتداوُل، و رؤيته الخاصة وتحليلاته نابعة من مَلَكته الثقافية ومحصوله المعرفي وهنا أقول أنّ عليه أن يكونَ على قدْر ٍكافٍ من المعرفة والإطلاع وأن يتخلّى أيضاً عن دور المُرشِد المَعصوم والذي قد يُساهِم بخَلق هوّة بينه وبين القارئ خاصةً إذا كان مِمَّن يكتب للنُّخبة فقط.
وختاماً، عن الشَّراكة بين الكاتب والقارئ، إنّ ما يُكَلِّل هذه العملية بالنجاح هو المِصداقية؛ مصداقية الكاتب أولاً فيما يَطرح ويكتب ومصداقية القارئ فيما يَقرَأ ويُفعِّل ما يقرأه للخروج بنتائج تُفضي إليها هذه الشراكة. الكتابة واللغة صِلة الوصل بين هذا العالم، وبهذا نستطيع أن نفهم تقدير الكاتب ومكانته الفِكرية فيما يَكتب ويُغنينا بأفكار وآراء تُساهِم حقاً – لِمَن يُريد – في فتح آفاق الفِكر والمعرفة والتَعمُّق أكثر بالذات الإنسانية وهنا تكمن عظمة الكتابة وسِرّ المعرفة التي بُنِي على أساسها هذا الكون وسعى إليها الإنسان، ففي البدء كانت الكلمة؛ طوبى لذلك القارئ!
_____
ريم شطيح
كاتبة وباحثة سورية .

اترك رد