قصي البصري …..عبد الحميد الصائح

منبر العراق الحر :
ذاكرةُ البلاد ذاكرتانْ في ذاكرة ، ذاكرة النشوء والأحداثِ الكبرى من حروب وتحالفات وأنظمة سياسية وذاكرة الشعب بإنجازاته وفاعليته الفكرية الإنسانية وأنشطة البشر الفردية الذين يتعاقبون اجيالاُ، ليتركوا في حقيبتها الضخمة تاريخ الناس الذين مروا يوماً ما من هنا..
وعليه لا تاريخ بلا ذاكرة .. ولا أثر لشعب يعيش اليوم لا يتذكر آثار مَن عاشَ من الآباء على ذات الأرض فيما مضى .
قد يرى البعضُ أنّ هذه الفرضية ثقيلةُ الدم والتعقيد، لتُطرَحَ تقديماً للفنان العراقي الجميل المبدع قصي البصري، وهو يتفرج من منفاه على تاريخه الشخصي الحافل بالموسيقى والفرح وصناعة فلكلور ٍٍللوطن والناس خلال أعمالٍ متتاليةٍ مِنْ فنّ الأوبريت واللحن والغناء،مازالَ طعمُها في الذاكرة والروح وسيبقى الى أمدٍ طويل.
لكنها حفاوة بجميع من قدم ويقدم إبداعاً، و كانَ قلِقاً من أنْ يُنسى انجازُه في أعاصير الأحداث وتشعّب وسائل الإتصال والانتاج الفني ” فتغيب في أعماقِ ذكرياتنا المظلمة ، لكنّ ذكرياتنا تبقى ذات طبيعة مشتركة ، ومن ثم فهي ذاكرةٌ جمعيّة يذكرّنا بها المجتمع مع أنّها أحداثٌ عُنينا بها وحدَنا ” كما يرى هالبفاكس 1877-1945 الذي خص الذاكرة الجمعية للموسيقيين تحديداً.
لذلك لايخطىء هذا الأمر تاريخَ قصي البصري، الفنان العراقي الكبير الذي قدم لشعبه ( بيادر خير والمطرقة وفنون شعبية مبتكره ) من أجمل فنون الأوبريت بروحه البصريةِ العذبةْ، ونسيج الغناء الجنوبي الذي تربّتْ عليه أجيالٌ مُحِبةٌ للحياة، غافيةٌ على شط الوطن الذي يحتضن مراكبَنا جميعا.
هذا الفنان الشامل الذي يذكرّنا بتراث العالم الفني والفكري الشعبي، وهو ينسج بأعصابه الرقصَ والموسيقى الشعبية والغناء والتمثيل ، يعلّمُ الطلبةَ في بداية عمله الفرح خارجَ الدروس اليومية، ويعلّمُ الجمهورَ الطاقةَ على أنْ يتحرروا بالمحبة والفن والرأي الشجاع من قيود السياسةِ وسجونِ الحياة .. الذي قدم أعمالاً ظلت راسخة في أرشيف الشعب العراقي ، يخرج من بلاده غاضباً لايخشى شيئاً سوى النسيان ، النسيان الذي يهدد البشرَ جميعاً، فتراهم يحتالونَ عليه بغرائز البقاء وأوهام الخلود كل على طريقته وعلى وِفْقِ مستواه ، واجههه قصي البصري كأي مبدع مجدّد أو مفكر متمرد بصناعةِ الأثرِ الأبداعي ، بالفرح غير المؤقت ، فرح الكلمة المعبرة واللحن الحلو ، وخلاصة العاطفة الجمعية التي تتدفق مشاعرُنا وأحاسيسُنا مع فيوضها جميعاً. ويواجهُهُ اليوم ، وكأنّه في صراعٍ شرسٍ مع وهم النسيانِ ذاك ..
قصي البصري الذي لم يحظَ من منفاه في أقصى أميريكا بسوى رعاية الطبيب ، لن يقبل اعتذارَ وطنه يوماً في غيابه ، وهو يعيش في دولة غريبة وشعبٍ لم يعرفْه، ولم يشاطرْه أسطورة الفرح التي عمِلَ على نسجِها طَوالَ حياته، منذ أنْ تفتحت أزهارها مع بيادر البصرة ونخيلها . لن يقبل اعتذاراً متأخرا من أحدْ .. الا إذا أعادهُ من منفاه، بالقوة المسلحة بالحبّ والرعاية والعرفان، بحجم ما وهبه البصري للعراق، الى موطنه وموضع سرّته في قلب البصرة، على هودج الامتنان لفنان كبير كانَ يوماً صانعاً للفرحْ ومحباً للوطن والناس ،بكل ما يعني الوطنْ وكلّ ما يعني العطاءُ لناسِهِ ولذاكرتهم أجمعين.

اترك رد