منبر العراق الحر :
قديما ً .. كنا نستعير كتابا لقراءته وإعادته لصاحبه ، أو نستعير “بدلة” لحضور مناسبة اجتماعية ومن ثم تعيدها لصاحبها وربما يتكرم عليها باهداءها لك اذا كان ميسور الحال .
حين تترك الوطن لأي سبب كان وتنغمر الغربة ، كأنك تعيش حياة مستعارة لن يتخلى عنك الاحساس بأنها حياة لاتعود لك مهما استطال بك البقاء ، تنتهي احتفالية المكان ودهشة الجديد لهذا العالم المبهر والمثير بأكوائه واجساده وتقاليده الغريبة ، وماهي إلا أشهر معدودة حتى يعاودك هاجس الحنين للوطن والأهل ، تراودك الذكريات وتاخذك نحو عزلة نفسية تعمق الشعور بغربة المكان وبلاهة الزمان والسؤال عن الجدوى .
الوطن ليس كتاب تتم استعارته ولاقميص تحضر به لقاءً عاطفيا ثم يُعاد لصاحبه، في الغربة يتحول الوطن لشعور بالنقص أو الفراغ الوجودي .
تحدياتك لذاتك تقرر أن لاعودة وتذهب باحثا عن إثبات صلاحيتك في العمل أو الدراسة والتعليم والتفوق ، تتآلف مع فكرة الوطن البديل والاندراج بعالم صرت ترتاده دون تكلفة أو حرج السنوات الأولى، ثم تمضي بك السنوات وانشغالات المعيشة واشتراطات الحياة والعائلة والمكاسب وزهو الابناء، سنوات وتحولات وعوارض العيش تنسيك ذلك الهاجس المسمى وطن ، ولايكاد يمر بك سوى عبر اتصالات هاتفية مع بقايا الأهل تفرضها مناسبات متباعدة واحيانا منسية تماما .
تنعدم بعض ملامح الذكريات فتظهر بصور مشوهبة ، ضائعة الملامح ودون اصوات ..تبدو من عالم غريب وبعيد ، ثم يطحنها النسيان في معتركات وعوالم جديدة وذكريات جديدة وقريبة .
في تلك السنين كان الوطن يتحرك خارج مخيلتك منذ أن فارقته هاربا ، أصبح يتشكل بأطر سلوكية ومنهجيات أخلاقية غير ماتعرفت عليها ونشئته في وسطها ، وطن يفقد براءته وينتهج التوحش كما تقول الاخبار .. ولاشيء يثيرك فكل شيء أصبح بعيدا عنك ، غير داخل في تفكيرك واهتمامك وحياتك .
تسقيقظ في صباح شيخوخة مبكرة لتشعر أنك بلا هدف، الوطن البديل يحيلك للتقاعد ويخيرك بين العيش وحيدا أو دار العجزة !
وطن بعيد مضاع منك، حياة بلا صداقات ولاندماء . العالم مشغول عنك بتفاصيله العديدة والحديثة، وأنت تصبح قطعة بشرية تصلح للمتاحف وسرد متقطع لحكايات قديمة .
تعتاد الاستيقاظ في ساعات مبكرة وظلام يكرس الشعور بالكآبة .. عندها تبدأ لعنة الذكريات تهبط بك نصف قرن، تداهمك رائحة أمك واصوات طازجة تتسرب اليك من الجيران ، المناكدات بين اخوتك على دخول الحمام الوحيد في البيت . اصوات الباعة وموعد مرور المعلمات الفاتنات للمدرسة في آخر الشارع ، حنين يشبه الحريق ينتاب الروح والقلب المتعب .
ياالله ..
كم تحتاج من نشيج في محاولة العودة للوطن، ولا تدرك أن الوطن الذي بكيته أول وآخر العمر قد أسقطك من ذاكرته، فالأوطان عيش ورفقة وعناق وروائح واصوات وأنفاس .. وليس جواز سفر أو قميص مستعار .
