يومُ النكبة إعدادٌ واستنهاضٌ وتحريضٌ واستنفارٌ …بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

منبر العراق الحر :

كفانا بكاءً وعويلاً ووقوفاً على الأطلال ونحيباً، وحزناً على ما مضى وأسفاً على ما كانَ، ونشيجاً على ما ملكنا وشدواً على ما جمعنا، فلا البكاء يعيد المجد ولا الأسى يبنى الأوطانَ، ولا الذكريات تشفي القلوب ولا الأماني تعالج الجراح، ولا الآهة تحيي الموتى ولا الصراخ يبعث جديداً، ولا المفاتيح الصدئة تفتح أبواباً، ولا الأوراق البالية تعيد حقوقاً، فهذه الدنيا تؤخذ غلاباً، القوي فيها باقٍ والخائر فيها ضائعٌ، ولا مكان فيها لباكٍ أو متسولٍ، ولا تقدير فيها لضعيفٍ أو ساكنٍ، ولا بقاء فيها لمن هانت نفسه وخضعت روحه وخارت قوته، ولا عودة لمن استعظم عدوه وخاف قوته، وخشي بأسه وهرب من مواجهته.

تكفي خمسٌ وسبعون سنةً من التيه والضياع، ومن التشرد واللجوء، ومن النزوح والحرمان، ومن التشتت والحيرة، والغربة والهجرة، والطرد والإبعاد، فلم يعد هناك متسعٌ لسنين أخرى نضيفها، ولا لهوانٍ آخر نتجرعه، ولا لشتاتٍ آخر نجربه، أو نزوحٍ جديدٍ نكابده، فما ذاقه الفلسطينيون على مدى خمسة وسبعين عاماً من عمر النكبة يكفيهم، وما عانوه طوال محنتهم يفوق قدرتهم ويتجاوز استطاعتهم، فما من بقعةٍ في الأرض إلا وفيها بعض منهم، وما من دولةٍ إلا وتستضيف على أرضها بعضاً منها، حتى غدوا في أقاصي الأرض وجهاتها الأربع، يسكنونها رغماً عنهم، ويعيشون فيها محرومين من وطنهم وبعيداً عن ديارهم.

 

تكفي خمسٌ وسبعون سنة من الموت والشهادة، ومن السجن والاعتقال، ومن الفقد والثكل، ومن المعاناة والألم، فقد استشهد عشرات آلاف الفلسطينيين في سني المواجهة وأثناء سنوات القتال والمقاومة، وتعرضوا لمذابح دموية ومجازر حقيقية، واستهدفهم العدو بالطرد والاستئصال والنفي والإبعاد، وتوفي بحسرةٍ وأسى بعيداً عن الوطن عشرات آلافٍ آخرين، وقد كانوا يتوقون إلى العودة ويتطلعون إلى استعادة حقوقهم وتحرير وطنهم، ولكنهم دفنوا كما عاشوا غرباء في منفاهم، بعيداً عن وطنهم، وغير مسموحٍ لهم أن يعودوا أمواتاً إليه، ولا أن تحتضن الأرض أجسادهم، أو يبقى لهم فيها ذكرٌ أو أثر، وعلامةٌ أو قبرٌ.

 

لا ينسى الفلسطينيون على مدى سنوات النكبة الأليمة التي نطوي اليوم ذكراها الخامسة والسبعين، ما يزيد عن المليون معتقلٍ وأسير، الذين عانوا في السجون والمعتقلات الإسرائيلية صنوف العذاب الشتى وأشكال الاضطهاد العديدة، وحرموا لعشرات السنوات من أسرهم وعائلاتهم، ومن زوجاتهم وأولادهم، وقد استشهد في الأسر وخلف القضبان الكثير منهم، وعانى من خرج منهم من أمراض مستعصية ومشاكل صحية وأخرى نفسية جراء التعذيب والحرمان وسوء المعاملة.

 

تكفي كل تلك السنوات المريرة وهذه المعاناة الطويلة، فلن نسمح لسنواتٍ أخرى أن تمر ونحن على هذا الحال، ولن نقبل من المجتمع الدولي أن يغض الطرف عن معاناتنا، أو أن يسكت على محنتنا ويرضى بنكبتنا، ولا أن يكيل العدالة بمكيالين ويكافئ الغاصبين ويقف معهم، ويؤيدهم ضدنا وينصرهم، فما تعرضنا له يفوق ما تعرض له أي شعبٍ آخر عبر التاريخ، وقد آن الأوان لتغيير الحال وتصحيح المسار، واستعادة الحقوق وتحرير الأرض، وعودة اللاجئين وتعويض المتضررين، ولن نقبل بإحياء ذكرى النكبة مرةً أخرى، بل سنعود إلى ديارنا ونحرر وطننا، ونطرد المحتلين من بيوتنا، ونستعيد حقوقنا التي كانت، ونطهر مقدساتنا التي ما زالت.

 

لكن هذه الأماني الجميلة والطموحات الكبيرة لا تتحقق دون تغيير حقيقي في الرؤية والمنهج، وفي الهوية والنظرية، وفي الغاية والهدف، وفي العمل والممارسة، وفي النضال والمقاومة، وفي الإعداد والتجهيز، وفي التعبئة والتحريض، وفي القيادة والمرجعية، وفي المحيط والحاضنة، وفي مواجهة العدو والتعامل مع المجتمع الدولي، وإلا فإن سنين أخرى ستمضي، وأجيالاً أخرى ستذهب، وسيذوي شعبنا وتذوب آماله وتتلاشى أحلامه، وسيتمكن اليهود في أرضنا أكثر، وسيجلبون المزيد من المستوطنين إلى بلادنا، وسيطردون من بقي فيها من أهلنا صامداً في أرضه وثابتاً على حقه.

 

لن تنتهي سنوات النكبة وتداعياتها الأليمة، ولن تصبح أيامها من ذكريات الأمة المريرة وصفحاتها السوداء المشينة، ولن نتخلص من نتائجها المرة وظلالها المقيتة، ما لم نطوِ صفحات الفرقة والانقسام، ونقضِ على مظاهر الخصومة والخلاف، ويتحد شعبنا وتتفق قواه، وتتلاقى قيادته وتجتمع كلمته، وتكون يدنا واحدة وصفوفنا متحدة، ورؤيتنا واضحة وطريقنا معروف، ونهجنا مقاوم وسلاحنا حاضر، وعمقنا معنا وحاضنتنا تؤيدنا، وشعبنا يحبنا وأمتنا تساندنا، ولا يكون فينا ولا معنا متخاذلٌ أو متعاون، ولا منسقٌ أو متخابرٌ، فهذه قضيةٌ مباركةٌ ومقاومةٌ شريفة، لا يشارك فيها إلا الطهور، ولا ينتمي إليها ويعمل فيها إلا المخلص الصدوق.

 

لكن ذلك كله لا يكون ولا يتحقق، رغم الشعب الجسور والمقاومة القوية، والأمة الواعية والإرادة الحاضرة، ما لم تكن لنا قيادةٌ رشيدة قويمة، حكيمةٌ رشيدة، مخلصةٌ صادقة، مضحيةٌ متفانية، سباقةٌ معطاءةٌ، تكون لشعبها نموذجاً ولأهلها مثالاً، وتتصف بالرحمة عليهم وبالشدة على عدوهم، وتعيد إلى العمل ميثاق منظمتها وثوابت نضالها، وتتفق على حقوق شعبها وحرمة الاعتراف بعدوها، وإلا فإن النكبة ستعود علينا أعواماً مجيدة وسنين مديدة، وسينعم العدو في بلادنا سنواتٍ أخرى كثيرة.

 

بيروت في 16/5/2023

moustafa.leddawi@gmail.com

اترك رد