منبر العراق الحر :
يقول غاستون باشلار في جمالية وصفه للأشياء :أن الهامشية منها تتفوق في حسيتها على الأشياء التي تشغل حياتنا كثيرا ..!
هذا يعني في شجنه الجمالي أننا نمتلك الذكريات الحميمة لتفاصيل كثيرة ولكننا نتحاشها بتأثير تقادم الأزمنة وتطوراتها الحضارية وحتماً هذه التفاصيل هي لمكونات البيئة المحلية التي تتشكل منها معظم مراحل الطفولة والصبا .
أما الشباب فهو قد يبعدنا عن حميمة تلك الأشياء بفضل امتلاك وعي ثقافة ما يبعدنا عن فطرة ما كنا نمارسه في مرحلة الطفولة والصبا..!
و ( القبق ) الذي يتذكره الجميع هو غطاء قنينة الكوكا كولا والسفن آب وبطل البيرة والبيبسي كولا والمشن والفانتا والسيفون والسينالكو والسبرايت والحليب المعقم والتراوبي وكل مشروب غازي له ( بوزه ) .
ولا أعرف من أطلق مفردة ( بوزه ) على عملية فوران المشروب داخل القنينة وصعوده بقوة كبيرة على شكل فقاعات غازية حالما تفتح القنينة بآلة نسميها المكسارة كانت شركات المشروبات الغازية توزعها مجانا على الحوانيت .وكانت هذه ( البوزة ) واحدة من رهانات الصبا عندما نلعبها أشبه بالقمار حيث تهز القنينة بقوة ويتم الرهان على من يستطيع فتحها بالمكسارة وإظهار هذه الفقاعات إلى خارج القنينة .وكلما هُزت القنينة أقوى ظهرت الفقاعة بأندفاع اكبر…!
والقبق يطلق أيضا على غطاء قدر الطبخ ..
في طفولتنا الفقيرة كان للقبق شأننا ومساحة في براءة ألعابنا حين يصبح توفير دمى اللعب أمراً مستحيلا لان آبائنا همهم الخبز لبطوننا وليس الدمى لأحلامنا .
ولم أرَ في شارعنا طوال طفولتي طفلا أو طفلة تحمل دمية معتبرة .فحتى الدمى كانت أمهاتنا تعملها من الطين وتفخرها بالتنانير وسرعان ما تتكسر ولم تكن تحمل عطر الثياب والأغراء فقد كانت مليئة برائحة الطين المشوي حتى تشعرك انكَ لاتحمل دمية بل تنورا يذكرك بالنار واحتراقها وجهنم والشيطان والذنوب والخبز الكامن فيها في انتظار النضوج لنأكله وننام أو نكمل فروض المدرسة تحت ضوء الفوانيس.
ولهذا حين لاتكون الدمى تكون البدائل .ومنها لعبة ( القبابقة ) التي يلعبُ النعل أو القبق المملوء بالطين المفخور دورا كبيرا في ممارستها عندما يرمي المتسابق نعلهُ عليها من مكان ما ويوصلها إلى مسافة مفترضة بقوة رميهُ لهذا النعال فأن أصاب وأوصلها ربح كل القباقة ولم يصل أو يخطأ في أصابتها أتى الدور إلى المتسابق الثاني .وكان النعال ( الشطراوي ) والذي تنسب صناعته حصيرا إلى مدينة الشطرة العراقية ( شمال مدينة الناصرية ب40 كم ) ويصنع من الجلد اليابس والصلب المغموس بالملح كما اخبرني أحد صناع هذا النعال ويطلق عليه بالعامية الجنوبية ( المركوب ) لايقبل لأحد أن يلعب فيه لأنه يتفوق على بقية النعل وضربته لاتبقي قبقاً صاحيا في الملعب بل ويطعجها كلها وكأنه مصنوعاً من حديد.
في طفولتي كنت أدور بين الشوارع ومحلات بيع المشروبات الغازية التي قد لانرتوي منها إلا في الأعياد أو عندما يصطحبنا آبائنا إلى مناسبات أعياد الجيران والأصدقاء .فأجمع تلك الأغطية بماركاتها المتعددة فأتخل جمال تصاميمها حيث للكوكا كولا إيحاء يختلف عن البيبسي وعن السفن آب.
فلكل شعار مطبوع على الغطاء المعدني نكهة وحسا وأخيلة خاصة .وطالما كان قبق الكوكا كولا يذهب بي إلى أخيلة المتعة في كل أوجهها الحسية والجنسية والاقتصادية أيضا عندما منحني القدر الجميل صدفة مشاهدة احدي أفلام ممثلة الإغراء الفاتنة مارلين مونرو وهي عارية وتحتسي قنينة كوكا كولا .
وحتى إعلانات الشركة عن المشروب كانت تملئ واجهة المحلات وتوزع في الشوارع عن شقراء أجمل ما يميزها ابتسامتها وإغراء احمر الشفاه على فمها بلونه الصارخ وهي تستعد لشرب الكوكا كولا …
وكانت دعاية السفن آب مميزة جدا بعبارة ( تحبها ..تحبك ) وقد كتبت هذه العبارة على كل قناني هذا المشروب .
كانت متعة جمع هذه القباقة متعة رائعة ونحن نتجول في الأسواق وتحت أرائك المقاهي وفي مزابل البلدية أو على الشاطئ وكان أثمن قبق نعثر عليه هو قبق قنينة البيرة ( فريدة ) فقد كان احمرا وتتوسطه سنبلة وعبارة تقول الشركة الشرقية للمشروبات الروحية ..
كان هذا القبق ثمينا وصعبا أن نعثر عليه لأنه متواجد في البارات والنوادي فقط ولم يكن مسموحا لنا أبدا أن نقترب من تلك الأمكنة أو ندلف إليها .لهذا فالعثور على هذا القبق له طعما مميزا من السعادة وكانت اغلب ( اصوالنا ) وهو القبق الذي يُملئ بالطين اليابس ويرمى على بقية الأغطية في لعبة القباقة هو من نوع الفريدة لأنه نادرا ما نحصل عليه، وقد نجده في اغلب الأحيان في نفايات البارات والأندية ومحلات بيع الخمور المرمية على شاطئ الفرات.
كبرنا ولم ننسى القبق بالرغم من اندثار وانقراض لعبة القباقة وغيرها من الألعاب الشعبية نتاج التطور الحضاري وتحسن دخل الفئات الاجتماعية ودخول عولمة المرئيات إلى عالما .
ولكن بقي القبق قائما في عالمنا فحتى في الحرب كان هناك قبع عليك أن تفتحه لتصبح قذيفة مدفع الهاون صالحة للرمي .وقبق على حاوية العتاد .وقبق على قصعة الجيش .وبعضهم كان يسمي الخوذة حامية القبق لأن البعض ينال من بشاعة الحرب أن يطير نصف قبق رأسه من شظية مدفع آتية من الجانب الآخر..!
وعبارة ( طيرت القبق ) كانت واحدة من العبارات الجنسية الفاحشة التي يتم تدولها في البيئات الاجتماعية الفقيرة وتعني في جزء منها إن الشخص المعني اثبت رجولة ما في فعل اغلبه شائن ، لأنهُ في الجماع الحلال لايتم تداول هذه العبارة مطلقا..!
غاستون باشلار تحدث عن حميمة الأشياء البسيطة والتي لايلفها النسيان حتى وان اختفت ممارستها ولكنها موجودة أبدا .فالأشياء التي تتكون منها تفاصيل حياتنا مهما كانت بسيطة وحقيرة ومكانها المزابل فأنها في ذات لحظة لابد أن تكون قد شكلت جزءا من وعينا وطفولتنا وخواطرنا أيضاً…!