قصة .. (الضرّة)……هدى محمد وجيه الجلاب

منبر العراق الحر :
وصلتها برقيّة مُختصرة تقول:
– سآتي غداً مع العروس، التي ستملأ الدنيا سروراً.
– يا لهُ منْ جاحد، كيف استطاع إعلان ذلك أمامي؟ الخائن و يخبرني؟ كي يكوي قلبي و يُحطّمني؟
سابقاً كم هددها. ها هو سيفعلها..
كثيرة هي الحكايات عن أزواج اغتنوا مِن عملهم في الخارج و رجعوا ليتزوجوا ثانية ..
قضت يومها الطويل دون طعام و لا شراب،
تسبح في محيط أفكار متدافعة:
– مَنْ؟ زوجي؟ الرجُل الوحيد في حياتي، محور تفكيري؟
تقف مذهولة أمام مرآة شاهدة على مُعاناتها الطويلة،
تتنهد في حسرة: – آه. هدرت عمري، أفنيت زهرةَ شبابي
منْ أجلِه، انتظرت حتى يكوّن ذاته، حرمت نفسي كلّ مُشتهى،
لأسدّ الديون الكثيرةَ التي تركها وراءه مِن المال الذي كان يُرسله بالقطّارة.
تخرج إلى فسحة سماويّة تتوسط المنزل، ترفع نظرها نحو السماء، تشكوه: – يا إلهي أنتَ تراني أخلصت بالروح و الجسد، كنت أغمض عينيّ لحظة الغروب كي لا أستمتع بمنظر جميل و هو بعيد عني،
حرمني الإنجاب و أنا التي تموت على الأطفال.
تنظر حولها، بيت جدرانه كأنّها أسوار، نوافذه مُقفلة،
تكمل في حسرة: – حرّمت كلّ طعام يُحبّه على أمل عودته حتى نأكل معاً تحت أنظار الياسمينة، مكانه المُفضّل في البيت.
تلامس جسدها بنشوة عائدة مع خيالها إلى يوم زفافهما،
حين قطف الزهور ورماها فوق طرحتها قائلاً: – الله يجعل أيامنا أصفى مِن بياض الياسمين يا زهرة حياتي.
تَلِجُ غرفة نومها، تلمح صورته على الحائط، كادت تُمحى من كثرة التقبيل، تُدير رأسها ساخطة، تعارك ثنايا الشعور:
– يا ربّ لا أستطيع رؤية امرأة تشاركني زوجي،
هذا يُفطر قلبي.
تتابع في وجد موجع: – أَلَمْ يسأل عنْ شعوري حين أراها جانبه؟ ما الذي غيّره إلى هذا الحدّ؟
أين تبخّر الحبّ؟ لا إنَّه لا يستحقّ قلبي، تستدرك داخلها:
– “هل البعيد عن العين بعيد عن القلب” مثلما يقولون؟
نعم يذهبون إلى الغربة، يكدّون طاقة جهدهم مع ذلك عندما يرجعون معهم الأموال كأنّهم فرسان، تباً كمْ الحياة مُخادعة، إنّها لا تساوي قِرشاً صدئاً، لا تعني شيئاً،
قهر، خيانة، عذاب، حرمان؟
كمْ صرخت داخلها رافضة الرخاء الذي سيحضره.
بصوت عال: – لعنة الله على المال،
لا أطلب شيئاً من هذه الدنيا، أريده فقط مِن كلّ هذا الكون.
ترتمي على سرير يابس. سواقي ساخنة تسيل مِن عينين منتفختين، تمسح دموعاً رافضة تأبى إلاّ غسيل صدأ الهموم. تقفُ حائرة لا تعلم ماذا تفعل في تلك الساعة المُتأخرة من الليل.
تأتي و تروح. تدور حول السرير، ثمّ تجلس و تضرب رُكبتيها بيديها، تصرخ من أعماقها: لا يستحقّني.
تغفو عند بوابة الليل منْ شدّة إرهاقها
ترى ثوباً أبيضَ يمتدّ مِن الأرض إلى السماء و إكليلاً مِن زهور الياسمين يطير .. زوجها آت نحوها مِن بين غيوم رماديّة كثيفة و ثمّة امرأة سمراء، تلوح بطرحة طويلة
ثمّ تلفّها حول عنقها كمشنقة تحاول خنقها ..
تتخبط في ندى فراشها الحار ..
تنهض من حلم قاتل لاهثة، العرَق يتسربل جسدها النحيل. تنظرُ حولها .. كلّ شيء راقد بلا روح.
يقع نظرها المضطرب على الصيدلية الصغيرة،
تنقضّ عليها، تفتحها، تسحب علب الأدوية مِنْ على الرف، تبعثرُها على الأرضِ بجنون.
بهستريا غريبة تصرخ كأنّه يسمعها:
– روحي فداك، أموت عليك يا عمري.
بعدَ دقائق سوداء تسحب قدمين متثاقلتين
نحو الياسمينة الغافية، بيدها اليمنى تهزّ جذعها بعنف.
تُردد: – سامحني يا ربّ.
رأت ظلالاً مضطربة تتماوج أمام ناظريها، نوراً باهراً، سهلاً فسيحاً كأنه بحر شاسع، تطفو فوق أمواجه الخضراء وقد تهادت في أناة وسكينة.
تشهق و ترتمي تحتها جثّة هامدة،
في يدها اليابسة علبة دواء فارغة.
وقت أذان الصبح، بدت الياسمينة الدمشقيّة كأنّها تبكي فتناثرت زهورها بسخاء أغرقت الجسد الميت.
فاح الأريج و انتشر من كفن الورود المُنتحرة ..
صباحاً الزوج الساذج، الذي يهوى العبث و المُزاح أتى في الوقت المُحدد، مُتباهياً أمامَ أهل حيّ الصالحيّة بسيارته الجديدة البيضاء التي أطلقَ عليها مُمازحاً اسم العروس.
..
.. هدى محمد وجيه الجلاب ..

اترك رد