منبر العراق الحر :
الفقر أبو الآفات جميعاً، العدو الذي نتمنى أن يكون على هيئة رجلٍ لـ”نقتله”. وهو أيضاً “ديستوبيا” لا نهاية لها تلخص حياة كثير من البشر في هذا الجحيم الأرضي. وربما يكون أيضاً ثيمة أساسية ترتبط بحياة الأدباء والفنانين، ويكون لها عميق الأثر في نتاجهم الأدبي والفني، ويورثهم ضيق الحال وقلة الحيلة – على الأقل – في عالمنا العربي.
قلائل أو نادرون من الأدباء العرب أو الفنانين، ممن اتخذ من الأدب مهنة يتكسب منها، أو وصل من خلاله إلى الثروة والجاه المادي. بل إن مشاهيرهم كانوا على صلة بأعمال أخرى كالطب والهندسة والتعليم ليكسبوا قوت يومهم.
في اليوم العالمي للفقر الذي يصادف في السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، ما الذي يجمع بين الفقر والأدب؟ من هم أبرز الكتاب والفنانين الذي وقعوا ضحية العوز، أو كان الفقر نقطة انطلاق لنجوميتهم الإبداعية؟ وما هي أبرز الأعمال الأدبية التي تحدثت عنه عربياً وعالمياً؟
قيمة الأدب
ولا أبلغ دليل إلى ذلك ما رواه سكرتير الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ (2006-1911) بمناسبة الذكرى الأولى لرحيله في الثلاثين من آب/أغسطس 2006، أنه كان بصحبة الأديب الكبير سنة 1991 في السيارة التي حملتهما في السيارة السوداء الـ(28) أثناء توجههما إلى منزله. عندما مرت من أمامهما سيارة مرسيدس سوداء من أحدث طراز وقتها، ما اضطر سائق محفوط أن يفتح لها الطريق قبل أن تقوم راكبتها بإنزال شباكهما بتقول بصوت ساخر للأديب الراحل: “شايف يا أستاذ نجيب الأدب ركبك أيه، وقلة الأدب ركبتني أيه؟”.
وها هو إبراهيم عبد القادر المازني (1949-1889) يسخر من قيمة كتاباته مادياً في مقدمة مؤلفه “حصاد الهشيم” متوجهاً بها إلى قرائه: “هذه مقالات مختلفة، تُباع المجموعة بعشرة قروش لا أكثر. وأقسم لك أن تشتري عصارة عقلي وإن كان فجاً. ومجهود أعصابي وهي سقيمة بأبخس الأثمان!”. وكأنه يتماهى مع ما يقوله الكاتب السياسي والروائي البريطاني جورج أورويل (1950-1903): “فليس ثمة من يأبه بقول الفقراء”.
“آفة الأدباء”
يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي (786-718) اتساقاً مع ما يذهب إليه المازني أعلاه: “حِرفةُ الأدب آفة الأدباء”. لكنه بالنسبة إلى الروائي الروسي فيودور ديستويفسكي (1881-1821) أمر لا بد منه وبداية طبيعية في حياة أديب: “الفقر هو الذي يصنع الفنان، وهو أمر لا بد منه في البداية”.
أبرز مثال على ذلك ما يرويه الأديب العالمي الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز(2014-1927) صاحب “مئة عام من العزلة” و”الحب في زمن الكوليرا” عندما تحدث عن اضطراره لتمزيق مخطوط روايته إلى قسمين، ليتناسب مع أجرة المبلغ الذي بحوزته إلى ناشره في الأرجنتين، ثم كيف قام ببيع مدفأته ومصفف شعره ليكمل مهمة إرسال القسم الثاني، ويتذكر ساخراً عبارة زوجته مرسيدس الساخطة: “كل ما ينقصنا الآن أن تكون الرواية سيئة”.
الرواية نفسها التي كانت سبباً مهماً بفوزه بجائزة نوبل للآداب سنة 1982.
ولعل “الخبز الحافي”، هذا العمل الأدبي الذي طاردته الرقابات العربية طويلاً، والذي تُرجم لأكثر من (47) لغة حول العالم منذ صدوره سنة 1972، قبل أن يترجمها إلى العربية الطاهر بن جلون سنة 1982.
محمد شكري (2003-1935) الذي خرج من قمقم الفقر والتعاسة، والبطش الأسري وتحت وطأة الاستعمار وتحكمه الأمية والدجل، والذي “ربّته العاهرات” وأكل من المزابل حرفياً، كما يقول بنفسه.
ولم يتعلم الكتابة والقراءة حتى بلوغه سن الحادية والعشرين من عمره، هي بمثابة وصف ديستوبي أمين لواقع عاشه الكاتب بحذافيره البائسة. كذلك، هي كسر لقُدسية صورة الأب الرمزية فنسمع شكري يقول: “اللعنة على كل الآباء إذا كانوا مثل أبي”.
وتذكر تفاصيل الرواية، هروب شكري من قسوة والده وشظف العيش الريف إلى واقع لا يقل بؤساً في طنجة، حيث سجن لعامين، وعمل “قواداً” يدلل الجنود الأميركيين إلى مواخيرها ودور البغاء فيها. وتجارة الحشيش في هذا القاع الذي نجا منه بأعجوبة من خلال الأدب.
نهايات بائسة
بالمقابل، تكذب كثير من الوقائع التي عاشها أدباء وفنانون وموسيقيون عظام تركوا بصمة أبدية في عالمنا ما يذهب إليه دستويفسكي، وأبلغ مثال على ذلك هو نهاية فنان وموسيقي كبير كـ فولفغانغ موزارت (1971-1756) الذي مات في فقر مدقع لعدم فهم عصره الذي عاشه من استيعاب عبقريته ومنتحراً في سن السابعة والثلاثين من عمره تاركاً وراءه أكثر من (2100) عمل فني بيع بالملايين بعد وفاته، لكنه رحل عن دنيانا دون أن يكون في جيبه قرش واحد.
وكذلك الشاعر والمسرحي الأيرلندي أوسكار وايلد (1900-1954) الذي عاش أيامه الأخيرة كسيراً ومفلساً بعدما عاش بفضل موهبته الاستثنائية بعدما عاش رغد العيش ضمن المجتمع المخملي الذي كان أحد نجومه.
بدوره، الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1900-1844) صاحب “هكذا تكلم زرادشت”، وعلى الرغم من عقله النادر، وتمرده الذي وصل به حد الجنون، إلا أنه قضى آخر أيامه فقيراً وحيداً معدماً ترعاه والدته المسنة قبل أن تتولى بعد وفاتها أخته إليزابيث. وينال حظه من الشهرة والمجد والتأثير بعد وفاته.
هكذا، لم يكن الشاعر الرؤيوي وأحد أشهر شعراء “الحقبة الرومنطيقية” الذي قيل عنه “إنه أعظم فنان أنجبته بريطانيا” والذي كان في المرتبة الثامنة ضمن قائمة أعظم مئة شخصية في التاريخ، وليام بليك (1857-1827) بأحسن حظاً ممن سبق، فقد اتهم بالجنون بسبب آرائه المناهضة لمجتمعه وتم تهميشه حتى غدا عاجزاً عن تأمين قوت يومه. حتى دفن معدماً بدون شاهدة قبر حتى!
أن تكتب لتأكل
من أجمل الأعمال الأدبية التي وصفت واقع الفقر الذي يعيشه الكاتب، هي رواية “الجوع” للكاتب النرويجي كنوت همسون (1952-1959)، والتي اقتُبس منها عملان سينمائيان، الأول سنة 1966 من إخراج (هينيغ كارلسين) والثاني سنة 2001 من إخراج ماريا غيسي وهما يحملان الرواية الشهيرة ذاتها.
الرواية اللاعقلانية، ببؤس لا يخلو من دعابة وخفة ظل. وهي أشهر أعماله التي تعد من روائع الأدب العالمي. التي تستند إلى مسيرته الشخصية ككاتب معدم، وتدور أحداثها في مدينة أوسلو نهاية القرن التاسع عشر. وتصف بدقة هلوسات وإرهاصات الجوع الشديدة التي يعانيها في إطار مدنية حديثة لا ترحم.
يبذل الشاب الجائع جهداً مضاعفاً لإقناع المحررين بقصصه لدفعها للنشر في سبيل تأمين طعامه ومسكنه فقط. وتدهور وضعه النفسي والذهني في محاولة يائسة منه لتحويل الكتابة إلى مهنة دون أن يكون لديه إيمان عميق بموهبته. محاولاً الحفاظ على مظهر الكاتب الخارجي الأنيق بينما يعتصر الجوع أعماقه. ولعل عبارة كنوت الصادمة في الرواية: “أنت أفقر من أن يكون لديك ضمير، أنت جائع”.
تدلل إلى عار الفقر الذي عاشه الشاب المتشرد الباحث عن أحلامه في واقع لا يمنحه حقه في عيش كريم. قبل أن يقرر تمزيق أجمل ما كتب متوجهاً إلى ميناء مدينته ومرتحلاً نحو العالم الجديد.
علاء زريفة ….النهار العربي