منبر العراق الحر :
القطارات تمضي وتأتي وأغلب الذين ينتظرون على أرصفة المحطات هم من الجنود، أولئك الذين تنتظرهم أمكنة الحياة والموت فيها اللذان يرتهنان بقطعتي حديد، إما أن تكون شظية قنبلة أو طلقة بندقية، وأولئك الذين تجدهم يقفون متكئين على عكاز في أرصفة تلك المحطات فإن من انتظرهم كان لغماً أرضياً بلاستيكياً يسمونه (القفاز) وهو في أغلب إصاباته يُبتر فيها السيقان.
وكنت أعرف جنوداً دخلوا هذه الحقول برضاهم ورغبتهم حتى تُبتر سيقانهم ويتخلصون من قدر الرصاصة والشظية لقناعتهم أن الحياة من دون قدمين وبعكاز أو كرسي متحرك أفضل من الرحيل عن هذا العالم بنعش.
تسكنني مفردة الحقول؛ لأنها تصاحب الروح الشعرية في الحبر الذي يملأ أقلامنا ونسطره على الدفاتر، وطالما كانت الحقول التي نشمُّ شتالها، وهي ليست بعيدة عن قريتنا تمثل بالنسبة لنا بعض الأثر التي أبقتهُ دلمون إلى هذه الأماكن، ولهذا كانت تلك الأماكن الصورة الأقرب لهاجس المكان في قلب آدم (ع) يوم أراد لحظة النزول أن تكون الأرض حقلاً وبيتاً فقط.
لكن المعدان وهم عرب الأهوار وساكنيها الأوائل طوروها إلى حقل وبيت وجاموسة، ومن ثم اتسعت لتتحول هذه الحقول من حقول قمح وشعير ورز إلى حقول ألغام.
لم يسمع سكان القرية التي تقع فيها مدرستي بحقول غير حقول القمح والشعير والرز، وعلى الرغم من أنهم لا يزرعون أي محاصيل ويعتمدون على تربية الجواميس وبيع منتجات الحليب، إلا أنهم يتوجّهون للريف الفلاحي القريب من سلفهم ليشتروا القمح والشعير والرز، وفي بعض المواسم يتسع الجزر في المياه، وتظهر وسط الهور جزرات طينية كبيرة يستغلونها في زراعة الرز، وقد عشت مواسم شتل فيها سكان قريتنا (أم شعثة) الرز.
وفي إحدى سنوات الريع الوفير لحقل زرعوا فيه شتالهم ووسط بهجة الحصاد جاء الجندي (رسن مهاوش) من جبهة الحرب في الخفاجية وهو يمشي على عكازين، ولأول مرة عرف أهل القرية أن هناك حقولاً للموت وليس للزرع هي غير حقول الرز والقمح والشعير وتسمى حقول الألغام.
ومنذ مجيء رسن وحتى سفري من المكان بقطار الاغتراب أحسست أن المعدان يوصون أبناءهم الجنود بالحذر من هذه الحقول؛ لأنهم رأوا المشقة التي يعاني منها الجندي الكسيح أثناء سيره بعكازته؛ لأن الأرض رخوة وطينية.
يومها قال شغاتي: لم نعرف في حياتنا العكاز ولا لمبة الكاز، ولكنهما جاءا مع الحرب.
أجلس في غرفتي الآن، أتذكر تلك الحقول البعيدة، وذلك الرعب الذي سكنني يوم كان أمام ربيئتنا في خدمة الاحتياط حقل ألغام صغير في محيطها كي يحميها في الليل من أي محاولة لاقتحامها، ويومها كنت على حافة الربيئة أقرأ كتاب النبي لجبران خليل جبران عندما جاءت هبة ريح وطارت بعض من أوراق الكتاب لتستقر بين أسلاك الحقل، وبقيت هناك لا أستطيع أن أجلبها حتى اصفرّت ومعها اصفرّ وجه الشاعر اللبناني الذي عاش في المهجر، ومات فيه، وأتمنى أن لا أكون مثله.
بقيت تنتظر من يخلصها من فزع أن تقضي الليالي المقمرة وسط حقل الألغام، ولكنها ظلّت حتى نهاية خدمة الاحتياط عندما ودعتها بنظرة إشفاق وحنان وأنا أعود إلى مدرستي.
والآن مع ذكريات عكاز رسن وهو (تطمس) في الطين وقصائد الهايكو الياباني التي تتحدث عن حقول الرز، أمتّع غربتي بشيء عن ذكريات حقول الرز الشتال وحقول ألغام الحرب، وأتمنى أن أعرف أين انتهى الأمر برسن فلربما اتصل هنا بمنظمة خيرية ألمانية وأحصل له على كرسي متحرك حديث لا يطمس في الطين.
