قصّة (شعور)….هدى الجلاب

منبر العراق الحر :
بتّ أبغضُ تلك النظرة الباردة،
مكالماته المُتكررة على الهاتف،
كيفية قطعه الحديثه لحظة قدومي،
تُرى هلْ توجد امرأة ثانية في حياته؟
تسأل روحها
و هي تلقي نظرة على عينيه الغافلتين
عن حضورها،
تراه غارقاً في عالم بعيدا عن مُتناول رغباتها:
– أحسّ فجوة في أعماقه تزعزعني،
تقلق راحتي.
تنهضُ مُنزعجة
تتمشى قلقة فوق أرض أفكار تشدها بحنين نحو لقطات الماضي، كيف كان يُغازلها قبل النوم،
كيف كانت تصحو مُنتعشة على ملامسة شفاهه الساخنة لجسدها المنتشي لتدب فيها طاقة حيّة تكفيها طيلة النهار لتقوم بواجباتها المنزلية بهمّة.
– ما الذي بدّل شعوره تجاهي؟ ألامس إحساساً مختلفاً
لا أعرفه منذ زواجنا ..
باتت علاقتنا مُهشمة، يُهمشني منذ شهور
بل يتجاهلني تماماً،
يخرج مع شروق الشمس و يعود بعد غيابها يأكل وجبة سريعة، يدير ظهره وينام حتى لا يكلّف نفسه قول:
– تصبحين على خير.
تمسك قميصه الملبوس، تضمّه إلى صدرها، تقربه مِن أنفها، تستنشق بعمق يملأ فراغ رئتيها في مُحاولة بحث عن عطر غريب لامرأة ..
لا تحظى بأثر يُدينه، بل تشمّ رائحة عرقه، يائسة تحمل القميص المُتستر على صاحبه الغائب المُتغيّب عن ساحة قلقها إلى سلة الغسيل و تسحب مِن خزانته قميصاً نظيفاً لتعلقه على خشبة المشجب.
الارتياب أمر ليس بالسهل، الشك مجرم يقتل ببطء مُرعب،
لذا لا تهدأ، تدور و تبحث داخل و خارج مدار خواطر بالها المشوّش،
تخرج إلى هواء شرفة صغيرة متاخمة لغرفة نومهما، تتناسى للحظات منظر تراب و قمامة مرمية
على أرض منسيّة تحت البيت الهادئ الكبير.
تتخيل حديقة حلوة يلعب فيها ضوء القمر سعيداً، بسروره يراقص أغصاناً راغبة و زوجها يغمرها بقوّة تحت شجرة مِن صنع خيَالها الفستقي.
يصرخ داخلها مُدافعاً عن شريك عمرها:
– لا ألومه
بل ألوم نفسي.
تلج غرفتهما الساكتة، تتجه نحو مرآة مُغبّرة تتوسط الجدار المُتعرّق ..
تتأمل، ترى وجهاً فاتر الملامح:- ربّما أنا مُقصرة، الوقت يسرقني منّي، لا أهتم بمظهري هذه الأيام.
بموضوعية مُحايدة تتابع جذر مشكلتهما: – قد يكون الملل تسرّب إليه مع غفلة الأيام، سبّب جفاف أحاسيسه التي كانت نديّة كروضة ربيع، حديقة الزهور لا تبدو جميلة لولا بعض التشذيب، فما بالنا نحن البشر؟
تفتح خزانتها بحثاً عن أحلى رداء تلبسه:
– ما عليّ إلاّ الإهتمام بشكلي كي أعود للفت انتباهه، سأنقذ حياتنا الزوجية التي باتت على شفير هاوية،
لا أستبعد إذا تهاونت أكثر أن أراها أمامي تشاركني بيتي و فراشي.
ينبض داخلها أمل الفوز كعصفور رشيق:
– نعم سأحاول تحويل صمته إلى عاصفة، بروده إلى بركان يفور، كما أخذته منّي سأستعيده، هو رجُلي، لن أسمح بسرقته منّي مهمَا كلّفني الأمر.
طبعاً هي امرأة ناضجة تعرف كيف تؤكل الكتف،
تقوم على عَجَل، تستحمّ بصابون معطر، ترتدي فستاناً شفافاً بلون حَجَر الفيروز، يكشف بحريّة واسعة صدراً رائعاً وكتفين مكتنزتين، تضع عقداً عريضاً يتماشى مع لون ثوبها المميز لديه و أقراطاً فضية طويلة مطعّمة بأحجار كريمة من ياقوت و فيروز
و لا تُقصّر في دهن وجهها البيضوي بكريم وردي خافي للعيوب، و رشرشة عطره المُفضل على كامل جسدها المُثير ..
تشعل شمعة و تختار مِن خزينة هاتفها النقال لحناً يُحبّ سماعه لزيادة الرومانسيّة، تتمايل كغصن طري على ألحان المُوسيقى و تسرح في طرق الإغراء:
– سأجعله يعود طائراً إلى ليلة زفافنا، إلى القبلة العذراء التي تناولتها شفتاه بشغف مِن فمي، سأعطيه ما أملك مِن إحساس و حركات و أراهن أنّه
لن يفلت منّي بعد ذلك.
تقترب مُداعبة،
تلامس شعر رأسه الرمادي، تتحسس بفمها وجهه، تقبّله بشوقها و محبتها، يفتح عينيه الصغيرتين بكسل، يراها فوقه بهذا المنظر الملوّن، يكاد يبتسم لكنّه يبعدها عنه و ينهض قافزاً، دفعة واحدة
يُنير كلّ الأضواء، يطفئ نار شمعتها المُتفائلة بنفخة و بركان رغبتها المُتيقظة بعقدة تتوسط جبينه الضيق ..
مُستخفّاً تصرفها من وجهة نظره:
– هلْ جننتِ يا امرأة لمْ تنقطع الكهرباء بعد؟
يعود إلى متابعة هروبه بعد أن أسقط ورقتها الأخيرة:- اغسلي تلك السخافات و نامي.
ليلة سلحفاتية سَرَتْ، هي تخطط تقصّ و تفصّل، تحوّل رفضه داخلها إلى شرارة أشعلت طَبْعاً جديداً لديها، بدأ يدفعها بعنف نحو درب حقد ضرير: أيهجرني لأجلها؟
أ هي أحلى؟
أ تحبّه أكثر؟
بات كلّ شيء حولها يثير أعصابها المتوترة، مِن تكتكة عقارب الساعة إلى صوت صرصار استرسل
فن الغناء.
– فعلتُ كلّ شيء أستطيعه كي أُحرّك رماده لكن دون جدوى.
حُسم الأمر في دائرة ذهنها،
فاض كيل صبرها، تُغطي وجهها بيديها:- سيرى مِنّي أنواع العجب،
لنْ أجعله يرتاح، سأصرف ما أستطيع من مخزون أمواله،
لنْ أرحمه بعد الآن،
كلّ يوم سأدبر مكيدة حتى ينسى حليب أمّه.
ثمّ تعود للحظة استيقاظ وجدانية مُتذكرة:
– كأنّني لمحت نظرة راغبة تتأرجح بين مد و جزر؟ كأنّه أراد الابتسام
ثمّ لا أدري بدا كأنّه دُمية من قماش؟
تخرج ثانية إلى فضاء الشرفة:
– كأنّ النجوم هربتْ مِن السماء!
رُبّما هُناك فجوات في روح الفضاء أيضاَ،
هلْ سقط الضياء ضريراً في حفرة ميتة؟
بقيت قابعة يعانقها الإحباط على مقعد خشبي حتى صاحبت ولادة فجر جديد و استيقاظ شمس بليدة بدأت تهزها ببطء كي تصحو من شرود دواخل مُعترضة ..
في اليوم التالي،
ذهب مُعاقباً إلى مكتبه العقاري، دون شرب قهوته كونها قررت بدورها تجاهله و حرمانه بعض الخدمات.
بعدها مرّت أيامهما رمادية يلوّنها الملل الذي صار يُبعد أحدهما عن الآخر بالتدريج ..
في صباح خريفي باهت الملامح، بينما يحلق ذقنه أمام مرآة مغسلة الحمّام، يرن الهاتف الأرضي، تمسك السماعة بكسل، ترد متثائبة:
– ألو نعم؛ من تريد؟
– أنا طبيب الأعشاب، أخبري زوجك أنني وجدت العشبة التي كنت أبحث عنها،
ركّبت له الدواء.
يضحك بخبث:
– سيعود مثل حصان برّي.
يردف: – عندي مفاجأة للنساء خلطة لتجميل البشرة إذا أردتِ تجريبها أرسلها مع الدواء.
فهمتْ شيئاً أسقط ستار أوهامها،
تردّ مراوغة: – أنتَ مخطئ بالرقم،
هنا عيادة طبيب أسنان، أعد رقمك و انتبه قبل ضغط الأزرار.
تضع سماعة الهاتف الواشي بهدوء،
تهرب على رؤوس أصابعها نحو غرفة النوم،
في بال مُشفق:- الأمر صادم ما زال في حيطان الأربعين،
لكنّه يبقى أفضل من أن تشاركني حياتي امرأة ثانية.
تبتسم بأنانية و خبث و هي تتسلل برشاقة نحو غرفة المعيشة الملاصقة عند سماعها رنين الهاتف للمرّة الثانية في هذا الصباح التشريني الواعد.
– نعم.
يخفض طبقة صوته: يعطيك العافية هذا خبر، وجدتها،
يعني فُرِجت؟
بنبرة رجاء و تمني:
هل سأستطيع الليلة؟ أحلى هدية إذا ..
مِن وراء ستارة تتنصت على سير مكالمة أسفنجيّة امتصت سموم غضبها: – كيف لمْ يخطر لي؟ لو أنّه صارحني.
تدخل غرفة الجلوس مُشرقة الوجه
فينتفض خائفاً،
يضع السماعة بصمت، تزين وجهه ابتسامة أمل ..
تجلس جانبه على أريكة صامتة، تدقق تفاصيل الوضع بشفافية: – هذا لا يقف حجرة عثرة في طريق الحياة الزوجية، الرجولة لا تنحصر في ذلك ..
كأنّني ظلمته أنا أحبّه جمعتنا عشرة عمر، أريده أن يضمّني بشعور دافئ قبل النوم، يحسسني فيها بأمان صرنا نفتقده.
بلطف و غنج:
– نعيماً عمري،
انتظر لا تذهب، سأجهز القهوة. و تهرع تجاه المطبخ بحيوية
كي تصنع طَعْمَاً حلواً للصباح المُبتسم ..
تنطط حواجبها لتفكر بحيلة ذكية:
– كيف سأحصل على خلطة الجمال من طبيب الأعشاب هذا؟
و هو يحتسي قهوته مُتخيلاً مذاق ليلة لذيذة.
..
.. هُدى محمد وجيه الجلاّب ..
سورية ريف دمشق

اترك رد