في ذكرى “الهولوكوست”… كيف استغلّت إسرائيل رواية “الضحية” في حرب الإبادة ضدّ غزة؟

منبر العراق الحر :

يحيي العالم في 27 كانون الثاني (يناير) الجاري، اليوم العالمي لإحياء ذكرى ضحايا “محرقة اليهود”، تزامناً مع حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل ضدّ قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، في سيناريو دموي مشابه لما فعلته النازية في تلك الحقبة السوداء من تاريخ البشرية.
الهولوكوست وسيلة استخدمها الكيان المحتلّ كذريعة ليصور نفسه كـ”ضحية أبدية” في ابتزاز الغرب المؤيّد لإجرامه، ولإسكات أي صوتٍ مناهضٍ لسياساته. فكيف تتفنن إسرائيل منذ تاريخ نشأتها في تبرير كل إجرام ممارس على الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ وبالتالي كيف تدعم من خلال ما سبق سرديتها الملفقة؟. وبالمقابل، كيف يتعامل الغرب مع أي سردية أخرى تفضح الممارسات الدموية الإسرائيلية في فلسطين؟
“حدث تاريخي” أم “سردية مختلقة”
يُعرف الهولوكوست- وهي كلمة ألمانية- بمعنى المحرقة، أو “شؤاه” في اللغة العبرية، وتعني الكارثة، التي ارتُكبت بين عامي (1945-1933) مع بدايات الغزو الألماني لأوروبا. وأودت بمقتل ما يقارب الـ 6 ملايين يهودي، إضافةً لما يقارب الـ 5 ملايين من الشعوب الأوروبية الأخرى التي رزحت تحت الاحتلال الألماني، من بينهم (200) ألف من الغجر، و(200) ألف من المعوقين والمثليين جنسياً والمعارضين السياسيين وفقاً لسياسة التمييز العنصري التي تبنّت ما يُسمى بـ”القتل الرحيم”.
معسكرات الرعب، والمجازر المرتكبة فيها سواءً عن طريق غرف الغاز، والإعدام بالأسلحة النارية، والحقن القاتل للضحايا والتجويع ضمن برنامج الإبادة الجماعية الذي انتهجته النازية لتصفية أي عرق آخر لصالح العرق الآري “الأفضل والأرقى” و”صانع الحضارة” وفقاً لعقيدتها العنصرية، كجزء من “الحل النهائي” للتخلّص من اليهود.
هذه السردية التي غزت المخيال العربي والكوني على حدّ سواء، نتيجة الجهود الحثيثة لليهود سواءً عن طريق الصورة أو الكلمة، في تكريسها وجعلها جزءاً من الوعي الجمعي تحت ما يُمكن ان نسمّيه “أدب الضحية”.
ومن أبرزها فيلم “عازف البيانو” الحائز جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان والأوسكار سنة 2002، وهي عبارة عن تحوير درامي لرواية الكاتب البولندي فلاديسلاف شبيلمان.
وأيضاً، الفيلم الشهير المأخوذ من رواية “قائمة شلندر” للمخرج الأميركي ستيفن سبيلبيرغ سنة 1993، حتى ساد الاعتقاد أنّ هتلر قام بحرق اليهود، وزجّهم في أفرانه وصلاهم وشواهم.
المحرقة الموجودة في التراث التوراتي الذي يتناول في ما يُسمّى “اختبار ابراهيم” من قِبل الرب، حيث يتماهى “استدعاء الحرق” ضدّ جماعة يهودية مطاردة ومطرودة ومنبوذة رغم أنّها تمثل “شعب الله المختار”.
وبالتالي، استغلال هذه “المظلومية التاريخية” لمصلحة قيام دولة الكيان على حساب “حقيقة النكبة” سنة 1948، وتالياً، على حساب شعب كامل تمّ تهجيره ونفيه وارتكاب المجازر بحقه طوال العقود اللاحقة التالية.
بينما يصفه الكاتب الأميركي وأستاذ العلوم السياسية نورمان فنكلشتاين المعروف بمساندته للقضية الفلسطينية وبغضبه الشديد كيهودي للاستغلال الصهيوني للمحرقة النازية بـ”الأيقنة” “والتقديس”. والخروج عن العقلانية في وصف حدث تاريخي متكرّر في التاريخ الإنساني. ففي كتابه الشهير “صناعة الهولوكوست: تأملات في استغلال المعاناة اليهودية”، يقول فنكلشتاين: “تفرد المعاناة التي كابدها اليهود تضاعف من الادعاءات الأخلاقية والعاطفية القائلة إنّ بوسع إسرائيل أن تفعل الشيء نفسه مع شعوب أخرى”.
كتاب ضدّ المحرقة
إذا كان الهولوكوست جريمة بحق الإنسانية لا يمكن إنكارها، فهناك بعض المؤرخين ممن روّجوا عن كونها مجرد “أسطورة” ومحض خيال لتحقيق أغراض سياسية معينة ومكاسب مالية. فهم يؤكّدون في كتاباتهم أنّ “الحل النهائي” بالنسبة الى قضية اليهود في ألمانيا النازية كانت “ترحيلهم” وليس “قتلهم”. وأنّ أرقام ضحايا اليهود مبالغ بها ولا تتجاوز عشر الرقم المذكور أعلاه. كذلك، إنكار معسكرات الإبادة وغرف الغاز وسواها. ليصبح “إنكار المحرقة” جريمة تعاقب عليها القوانين الأوروبية والأميركية تحت ما يُسمّى بـ”معاداة السامية”.
وبالتالي، غدت عقيدة أخلاقية “لا تقبل التجديف بها” في إطار التكفير الغربي عن ذنوبه. أبرزهم المؤرخ البريطاني ديفيد أرفينغ، بسبب إنكاره المحرقة في كتابه “حرب هتلر”، الذي حكمت عليه محكمة نمساوية في شباط (فبراير) 2006 بالسجن ثلاث سنوات. وكذلك الصحفي الكندي ريتشارد فيردال الذي تمّ استبعاده بقرار من المحكمة العليا الكندية سنة 1992، بسبب كتابه “هل مات ستة ملايين حقاً؟”.
 كذلك، من أوائل الكتب التي تبنّت هذه النظرية كان “الحكم المطلق” للمحامي الأميركي فرانسيس باركر يوكي، وكان أحد المحامين الذين كُلّفوا بإعادة النظر في مخرجات محاكمة نورنبرغ سنة 1946، حيث أبدى امتعاضاً كبيراً بسبب “انعدام النزاهة”. ولكن سرعان ما طُرد من منصبه بسبب انتقاداته المتكرّرة للمحكمة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من ذات العام.
كذلك، هاري إلمر بارنز، وهو أول مؤرخ أميركي يتناول موضوع إنكار الهولوكوست خلال الحرب العالمية الأولى. بارنز أصبح مؤيداً لألمانيا وبدا عازماً على الدفاع عن الشعب الألماني ضدّ أي مسؤولية عن الحرب.
وبينما ألقى باللوم على فرنسا وروسيا في بدء الحرب، فإنّه توقف في أعماله المبكرة عن إلقاء اللوم على اليهود، يعتبر البعض عمل بارنز “تحليلاً تاريخياً محترماً إلى حدّ ما، على الرغم من أنّ أجندته كانت عبارة عن إدانة واضحة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الأولى”. وتظهر هذه المواضيع بقوة في كتابه “نشأة الحرب العظمى”.
وفي مطلع الستينات من القرن الماضي، أصدر الكاتب والمؤرخ الفرنسي بول راسينيه كتابه “دراما اليهود الأوروبيين”، وهو بدوره أحد معتقلي المعسكرات النازية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، ما يعطي أطروحته حول الهولوكوست صدقية كبيرة بالنسبة للبعض. وكذلك كتاب “أكذوبة القرن العشرين” للكاتب الأميركي أرثر بوتز الذي يؤكّد خلاله أنّ الهدف الحقيقي مما أسماه “مزاعم الهولوكوست” تأسيس دولة إسرائيل.
الكتاب الأشهر والأكثر دقّة من الناحية التاريخية للكاتب الفرنسي روجيه غارودي بعنوان “الأساطير المؤسسة للدولة الإسرائيلية”، ومن ضمنها “أسطورة الهولوكوست”، وأنّها نتيجة للدعاية التي روّج لها اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة.
سردية الضحية الفلسطينية الممنوعة
في مقابل التمويل والدعم الغربي المهول، سواءً على الصعيد الإعلامي والسياسي لسردية المحتل، وروايته المزعومة حول كونه “ضحية دائمة”، يخلقها التوازي في المصالح والمكاسب السياسية بينه وبين القوى النافذة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. فإنّ هناك تهميشاً  وتغييباً -شبه كامل- لسردية فلسطينية تفضح ممارسات الإبادة الجماعية المُمارسة بحق الفلسطينيين منذ عام 1948.
ليس آخرها حجب التكريم الذي كان معداً على هامش معرض فرانكفورت الدولي للكتاب على خلفية الحرب المستمرة على قطاع غزة، للروائية الفلسطينية عدنية شلبي عن عملها الروائي المترجم إلى اللغة الألمانية “تفصيل ثانوي” عن دار (ليبراتور) الفرنسية الشهيرة ، لاتهامات تتعلق بـ”معاداة السامية” كونها تصور الإسرائيليين كقتلة ومغتصبين.
ما يعيد للأذهان ما سُمّي “الفضيحة الألمانية” التي أحدثتها الضجّة الكبيرة عقب فوز الكاتب الألماني مارتن فالزر بجائزة نوبل للسلام عام 1998، وخطابه الشهير الذي انتقد فيه ما أسماه “العرض الدائم للفضيحة الألمانية”، وتهافت وسائل الإعلام على ذكر قضية الهولوكوست، وبناء نصب تذكاري يمجّد ضحاياه -من اليهود- في قلب برلين.
حادثة الإقصاء الأدبي التي تعرّضت لها شلبي، تذكّرنا أيضاً، بما تعرّض له كتاب المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابه (التطهير العرقي في فلسطين)، من خلال إعلان دار (فايارد) في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، سحب الكتاب، والتوقف عن تسويقه بحجة “انتهاء العقد” بينما أظهرت إحصائيات الدار ارتفاع مبيعات الكتاب خلال فترة الحرب.
علاء زريفة—النهار العربي

اترك رد