منبر العراق الحر :
ليس الشعر وحده من يغري ليل الأهوار ، هناك القصص والروايات والسهرات الغنائية الطويلة وتلك الحكايات الشهية لمعلمين قضوا عطلة الصيف في إسطنبول وساحل فارنا والأكثر مغامرة منهم ذهب الى باريس وروما ومدريد وطنجة.
وحتما بين كل هذه المدن تبقى شهية المدن التي لم نراها سوى في ما تتخيله لنا الكتب عنها ، تبقى هي الأجمل ، لهذا منذ قبعة جيفارا وحتى كتابة أسمي لأول مرة في حياتي على دفتر الخطة المدرسي الذي يخضع لتفتيش شهري من قبل المشرف التربوي ، أعيش أمنية أن تكون حقائبي متجهة الى مدن الكاكو والأناناس والمانجو ونيرودا وبورخيس وبالرغم من أنني لم أسافر ولا مرة واحدة في حياتي فلقد مللت من مشاهدة المدن التي نشاهدها في حكايات المعلمين المسافرين.
منذ أول كتاب لبورخيس جاء الى ليل الاهوار وهاجس الرجل الحكيم يسكن الكثير من اصدقائي حتى باتت قصصه واحلامه الشرقية بعض أمنياتنا لنذهب الى بوينس ايريس ونرى الرجل الذي بدأ بفقد بصره ونتفحص عناوين مكتبته التي يفتخر فيها ويقول : أن احد أهم كتبتها هو حكايات شهرزاد في الف ليلة وليلة.
ذات يوم وأنا أتجول في شوارع مدينة غرناطة الإسبانية شدني عزف راقص لفرقة فلامنكو على ارصفة احد الشوارع التي تميزت شرفات بيوتها بسلال ورد منسقة بصورة غريبة وجميلة تشبه سلالم الزقورات ، ومع الحنين الى السلالم البعيدة وصورة الورد مع موسيقى قيثارات الفلامنكو ومن فرط بهجة المكان نزلت سيدة اسبانية ربما ترتدي ذات الملابس التي ارتدتها كارمن في احلام حكايات الباليه الموسيقي وبدهشتها الاسطورية ، وقد رافقها زوجها ليؤديان رقصة الفلامنكو مع عزف الرجلين اللذين كانا يعزفان على الرصيف ، تعب الرجل ولم يستطع مجاراة زوجته في دورانها الراقص وهو في احضانها وصار يلهث فسمعتها تقول له :لا تتعب استمر في احتضاني يا بورخيس.
لقد كان أسمه بورخيس ، لأنتبه الى الشبه الغريب بينه وبين كاهن الثقافة الارجنتيني خوري لويس بورخيس .
نسيت متعة عزف أصدقاء لوركا وجلبت ملامح الرجل الى غلاف ذلك الكتاب الذي تتصفحه بعذوبة نسائم ليل الاهوار في ذلك المكان الذي كان يجلب كل بيئات الارض ويضعها على اغلفة الكتب ليكون ليل الاهوار رفٌ هائل لكتب ثقافات الارض ويصبح القصب المعتم في لمعان النجوم والفوانيس شاهدا على أننا نصنع الجغرافية هنا ، يحضر بورخيس ويحضر طاغور ويحضر غائب طعمة فرمان وسوية يصنعون نسائم اللذة في هذا الليل السومري وفي نهاية الكتاب تجدنا نهمس الى الورق :شكرا سيد بورخيس لقد كانت قصة الخاتم ممتعة جدا.
يتعب بورخيس من الرقص ، أسأله أن كان يعرف الإنكليزية ؟
يقول : نعم .
قلت هل قال لك احد أنكَ تشبه لويس خورخي بورخيس .
قال : الجميع يقولون هذا ، وبالمناسبة أنا من أصل ارجنتيني .
قلت :كنا نعشق قراءته في ليالي الماء والقصب.
قال :اين في مراكو .؟
قلت :لا في الاهوار هناك في بلد أسمه العراق.
قال :آه سمعت به ، العراق مذكور في التوراة والاناجيل ، انا اعرف ايضا ان العرب كانوا هنا ، وربما بيتي هذا كان لأحدهم .؟
قلت :ربما ، ومضيت .
عاد بورخيس ليعانق زوجته وليكمل الرقصة معها .
مضيت الى اقرب مقهى ، استريح مع قدح شاي النعناع وهو حتما لا يشبه الشاي الذي كان يعده لنا ( شغاتي ) يوم يكون احدنا قد شعر بصداعٍ في رأسه…….!
منبر العراق الحر منبر العراق الحر