قبر في وطني خير من فردوس في الغربة ..موقف مقالي.. إبتكار وتاليف: عبد الرزاق عوده الغالبي

منبر العراق الحر :
عندما تفرد الغربة جناحيها لتطير، ينقسم الكيان الإنساني فوق جناحيها مناصفة بلا زيادة أونقصان، جسد و روح، ويرجح الوطن دومًا عند من عقله الزمن في حبل ترابه، ما دام يحتل الروح، و يحلّق الجسد والنفس بكل تطلعاتها فوق تلك الأجنحة المبهرة الخداعة عند من خفّ وزنه وهان تراب وطنه لديه، وتبقى الأحاسيس والمشاعر محتجزة في ذاك القرين البعيد عن الجسد, و لا يزال القلب ينبض والأيام تتسابق فوق عقارب العقاب ….
ما تجرّعت المرّ إلّا سقاني الدهر أمرّ منه، وحطّ بي الرحال في بقعة غريبة من دنيا الله الواسعة لا أعرف أرضها ولا سماءها و لا ناسها, أي شعور يمتطيني الآن، وأنا وحيد محتجز بين جدران الواقع الضيقة، لا أعرف سوى لغة الإشارات ، شعور يلغي إنسانيتي و كل الاعتبارات ويدمي شغاف القلب و يصبغ الأحاسيس بالعتمة والسواد، سألت نفسي مرارًا لماذا أنا هنا…؟ فتجيبني بصوت خافت حانق وكأنها تخشى مسامع ضميري الشامت:
-” لقد رفضك الوطن…! غربتك فيه أكبر من غربتك في الغربة..!”
قصة غريبة يسردها علي ضميري, كلما سألته يجيبني مبتسمًا وكأنه يشمت بي : حين انفض ركام حكايتي بوجهه : لا بيت، لا عيشة كريمة، جوع، عري، ظلم، هلاك وموت، أضحك أحيانًا, وأعود أبكي بمرارة, من طريقة التهكم الغريبة التي يرمي بها مفردات جوابه في قرارة نفسي بقوة وحقد, حتى أسمع رنينها فوق قاعها الفارغة من كل أمل وفرح، فهي مفردات ثقيلة مستفزة، التصقت فوق لسانه وتعّود أن يقولها لي بصوت مليء بالثقة والانفعال السلبي :
-” اصبر أيها الجاحد…!….إنه الوطن…فالأوطان لا تباع ولا تشترى…! ”
وتغطّ النفس بحزن عميق، وكأنّ تلك الكلمات سيف يفصل ضميرى عن نفسي ، وأتيه في فضاء نفسي بين ركام الانهيار والتوق نحو الهروب، وصمت مميت يعقب تلك المحادثة الدورية السمجة…..فهي دومًا أمَّارة بالسوء…..هي حالة ضعف انتابتني يومًا وسلّمتني مكبّلًا بين مخالب اليأس القاتل, اعتقلني هذا الفاسد الأفاق، حتى دون أن ينظر في وجهي، وأودعني في سجن الجحد المظلم ، عصبة من الوحوش الجارحة اجتمعوا على فطيس، – الكذب والرياء والدجل والجحد واليأس والطمع والخيانة والجحود- ، خط منحرف للشر ينخر بالخير ويناهض الحق دفاعًا عن الشيطان، تلك حالة أقرّتها فورة الشباب في هذا الوطن الجريح، فالكل يهمّ بالفرار، ربما هو اليأس ظالم وحقود، صوّر لنا بيوتنا ظلمة حالكة والغربة فردوس مفتوح مضيء، ونفخنا ريشًا في مهبّ الريح تذروه وتتلاطم به أمواج بحار ومحيطات الغربة والضياع، فقضينا النصف غرقى، والآخر حريقًا بنار الغربة المستعرة, حتى اعتلى الزمن قمة هاماتنا بياضًا….
انتبهت لنفسي في مرآب للسيارات، أنا وعائلتي, لا نملك إلا ما يغطي أجسادنا، لا مال ولا بيت ولا أهل ولا أصدقاء، عراة من كل شيء، نرتدي العوز والندم والحزن والجوع جلبابًا والنكد، وهل يغني من برد أو من حر….؟ ، عندها أحسست بقيمة البيت، وأدركت أن قبر في بيتي هو خير لي من فردوس الغربة، مددت يدي لجيبي الخاوي، لا يحوي سوى الضئيل، قد لا يغطي ثمن الخبز الحاف، ماذا أطعم من جاع من عائلتي ؟ وما الحجّة التي أقولها لهم حين يلسعهم الجوع والعوز والتشرد بيده الحارقة ؟ أتلفت يمينًا وشمالًا، وكأني أدركت قيمة ما ضاع مني، ولا أدري ما أفعل، وإن فعلت أين وفي أي مكان ….!؟
لأول مرة أرى نفسي مفلسًا من كل شيء، وما حولي مبهم غريب لا جمال فيه، رغم أنه يحوي كل أسباب الجمال، فأدركت أعراض أول مرض من أمراض الغربة، العمى، فصاحبها لا يرى شيئًا جميلًا فيها حتى يقارنه بما في وطنه ليحس بوجوده، الأشجار تغيّرت ألوانها ولبست أثوابًا ممزقة، اختفت الألوان من ذهني تمامًا, وتجمّعت في لون واحد، أسود فقط، رفعت يدي للسماء خجلًا من ربي متسائلًا، وهل يغفر لي فعلتي تلك؟ ماذا سأقول وأنا المذنب بحق تلك العائلة التي جلبها معي طيشي، رجوته باسمها خجلًا، أن يفتح نافذة لهم فقط من دوني ولو بقدر ثقب إبرة الخياطة، وأنا مستغرق بدعائي تذكرت رقم تلفون قد دسّه في جييبي صديق قبل مغادرة الوطن قائلًا:” لو ساقك الدهر وسحقتك الظروف، اتصل بهذا الرقم، قد يعينك” أخذت قصاصة الورق منه حينها دون أن أنتبه لما قاله، ظنّي سلفًا أني متجه نحو فردوس حقيقي تستقبلني عند بابه الملائكة, وما نفع تلك القصاصة، وتحت رنين ذاكرتي فتّشت الآن جيوبي كالمخبول حتى ظنّ أفراد عائلتي أن شيئًا لسعني من تحت ملابسي، وجدت قصاصة الورق الصغيرة أخيرًا، صارت محيطًا من أمل، بحارًا من فرج وانتظار، طوف نجاة لغريق أيقن أنه هالك……..اتصلت -ولا أعرف بمن أتصل، وماذا أقول – لكني اتصلت فهو فرجي الوحيد في تلك الضائقة المقيتة :
-” ألو…..ألو….!؟
كررتها مرارًا كالمخبول، أمل مشدود بطرف خيط رفيع جدًا في جهة الخط الثانية، قد يحمل بوابات من أمل، ينجي إن صمد، وقد يهلك إن انقطع, عند الشدائد نتذكّر حكمة الآباء وتذكّرتها, حينما تمرّ بوالدي ضائقة يكرّرها مرارًا بصوت واثق : “من الباب للكوسر فرج” وصمد الخيط بأعجوبة، فأدركت أن الله شملني برعايته، لا… أنا متأكد أنه شمل العائلة و شملني معها من أجلهم هم، وليس من أجلي، هو غاضب مني جدًا، لأني أنا نفسي غاضب من نفسي …وجاء الرد أخيرًا من صوت رجولي غريب لم أسمعه من قبل :
-” تفضل من أنت….؟”
-” أنا فلان من طرف أخيك فلان في الوطن وقد……!!”
وسردت كل حكايتي بالتفصيل والتلعثم، كلماتي تسابق بعضها البعض، ازدحام من خطوات، فوضى عارمة من حركة، وتصطدم الواحدة بالأخرى وتتعثر بأطراف ثوبها من شدة التأثّر واليأس الجاثم فوق صدري وظهري المهدود، فهذا الصوت الغريب هو آخر رجاء لي, وأول أمل سأزرعه في حقول ذلك الجحيم المقيت، رُبّ شيء بعيد عنك هو خير من قريب لا يفيد بشيء ولا يثير حتى الإحساس، أعطاني الرجل العنوان وطلب مني السفر إليه مسافة عشرين كيلومتر، وفي الحال أخذت مركبة أجرة بآخر ما أملك من ثروة، وأنا مبتسم فرح وكأني متّجه نحو الفردوس، وهي آخر مال بذلته من خيرات الوطن الذي تركت….
توجهت نحو عنوان غربتي الجديد، هي رحلة في عالم الغموض والغرابة والمجهول، ربع ساعة وبلغت العنوان، وكأني نزلت في سابع أرض، شخص لا أعرف، جزء من عالم مجهول لا أدرك، سلّمت وقدّمت نفسي، رحّب بي كثيرًا، واتضح أنه يعرف أخي الذي سرقته الغربة ومرّ بهذا الجحيم المستعر قبلي…..
لم ألتفت لعصيان النوم وأنا في تلك الفوضى إلا الآن، تذكّرت أنّ النوم فضّل البقاء في الوطن، فهو أفضل مني، فارق عيني، ولم يفارق الوطن, تصوّرت إنه خانني, لكن خيانته إخلاص, فهو أوفى مني آلاف المرّات في ميزان الوفاء….وارتفع صوت صراخ الصراع المحتدم في عقلي أفقدني قدرتي على النوم، وصار السهد قيّمًا على أبواب غرف ذهني المترعة بالغيض والضجر والاستفزاز لفراق عزيزهم النوم، أظن أن حربًا كونية محتملة الوقوع ستنفجر قريباً بين نفسي وضميري، ونام أطفالي ولا تزال نظرة أمّهم المعاتبة ملتصقة فوق جدار ذهني الأمامي تغطي جزءًا من إحساسي بالرضا، وتشكّل لي هاجسًا وسوطًا يجلدني في كل نظرة من عينيها الباكية بصمت مميت كصمت القبور، لا أسمع نشيجه بل أحسّ به من اشتداد الحمرة في مقلها وهي تترصّدني بصمت في كل حركة أقوم بها, حتى نسيت صوتها تمامًا…..ويستمر الصراع كلّما تزكي النار في صدري أوارها، من ما أنا فيه من أخطاء لا تغتفر، زلّة قدم فوق منحدر حاد أودى بي للهلاك، ما ذنب هؤلاء المساكين؟! وخنقتني العبرة وقفزت من النوم فقابلني الصباح بوجهه الضاحك…..
أقبل مضيفنا يحمل صينية من الطعام، صبّحني بخير الله وسلّمها لي تحت شكري العميق, وقال جملة جعلتني أبتسم لأول مرة منذ فراقي تراب وطني خلال رحلة الهلاك واليأس:
-” اتصلت بأخيك البارحة وكان الوقت متأخرًا ولم أوقظك، أراد أن يتكلّم معك، قلت له أنك نائم ، هو ينتظرك اليوم صباحًا…!”
وبعد الفطور مباشرة سمعنا صوت مركبة تقف في باب المنزل وصوت مضيفنا يصيح :
-” استعجلوا المركبة بالانتظار….!” واستمر الوجع……

اترك رد