منبر العراق الحر :
بهيه الخبّازة رحمها الله ، كانت جارتنا ، وهي أول الأجفان التي شعرت أنها تملك حساً عاطفياً ، ذلك عندما نقف أمامها ونحن جائعون .
لا خبز أشهى من خبز بهية الذي تعجنه وتخبزه بيدها ، ولم أر في حياتي لمعاناً في رغيف خبز ، مثل الذي تصنعه هذه المرأة التي ولدت بعوق الحدبة التي في ظهرها ، فلم ينمو جسدها طبيعياً وأصبح طولها وهي في سن الخمسين أقل من متر.
عاشت مع حدبتها بقناعة أن قدرها هكذا، ولهذا لم تتوقف عن بحث سبيل للعيش عن طريق تنورها لتصبح الخبازة الأولى في محلة الشرقية مع أسماء منافسة لكثير من النساء.
وأنا هنا في غربة الأزمنة وجغرافياتها ، وكلما أشتري لعائلتي خبزاً من أفران ألمانية أو سورية أو إيرانية يسكنني الاحساس بالفرق الكبير بين هذا الخبز وذلك الخبز الشهي الذي تخبزه جارتنا ، فيكون الفرق شاسعاً بين هذا وذاك، فلا أحصل على مذاق خبزها الأسطوري فتسكنني الحسرة لمذاقه وطعمه.
عاشت بهية وهي تناضل لتعيش، وقد سكنت لسنوات طوال في بيت المرحوم حسن صباح الذي كان يعمل سائق شاحنة قلاب في البلدية ، ثم انتقلت لتعيش في بيت قديم بزقاقٍ طويل كان يسكنه قبلها المرحوم مهدي الدباغ وعائلته، وأظنُّ أنه ملكٌ لعائلة المرحومة الحاجة مكية الحاج مري .
ذات يوم دبَّ الغرام في قلبِ المرحومة بهية لتقبل بالمرحوم حسن صباح زوجاً لها ،وأظنُّ أنَّ العوق بسبب حدبتها منعها من الانجاب، ولكنها حتماً عاشت احساس الحبِّ الدافئ الذي كانت تعيشه مع خبزها لحظة خروجه من التنور.
الجاران حسن صباح وبهية الخبازة ذهبا الآن إلى سماوات الذكرى، ولم يبق منهما سوى شغف الجوع الذي يسكنني وأنا أقفُ أمامها بعد أن صرفت كلَّ نقودي ثمناً لبطاقة دخول الفيلم الهندي ( أم الهند ).
فتهمس لي وهي ترى ملامح الجوع تسكن أجفاني : ها ولكْ نعيم كنتَ في السينما ؟
أردُّ : نعم .
ــ والآن أنت جائع ؟
ــ نعم .
فتمدُّ إليَّ برغيفها الحار، بحنان غريب وهي تقول : تذكرني دوماً يا نعيم ، فأنا بهية أم الخبز وليست أم الهند.