الموت الأخضر….منى الصراف

منبر العراق الحر :
صراع بين الوجود وعدمه، وبين المرئي واللا مرئي، وأناس آخرون يلتزمون الصمت بفوضى ازدحمت بها المدينة، والكثير ممّن فضّل ركوب الموج ليتسكّع في طرقها الضحلة، لقتل كلّ اخضرار تنبته بذرة للحريّة.
بالرغم من الاختلاف الفكريّ بينهما، كان الغريب هو هذا الوئام الذي يجمعهما، والأغرب من هذا أنّ الاثنين كانا مطلوبين من قِبَل السلطة الحاكمة في بلدهما، وكان الطريق الذي سارا فيه معاً للوصول إلى حدوده الغربيّة للنجاة بحياتهما طويلاً جدّاً، كان شابّاً في الخامسة والعشرين من عمره، وسيماً، أنيقاً، مثقفاً كأنّه كتاب يدور في الفضاء، اسمه (أحمد)، والآخر في السابعة والثلاثين من عمره طويل القامة أسمر البشرة، لحيته لم تفارق وجهه منذ سبعة سنين، واسمه (عليّ)، فكره مكتبة متنقّلة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، كلّما غاص داخل نفسه وجد الآخرين دائماً حاضرين، وإنْ غاص فيهم وجد نفسه، قلّما كان يغادر الدار أو يطلّ حتّى من نافذة منزله، كان دائم القراءة محبّاً للكتب، استطاع أنْ ينفذ إلى السماء ويعرف في النهاية أنّ الله ضوء ساطع ينتشر على الكون، لكنّه للآن لم يستطع أن يعرف وليد مَنْ هذا السطوع!
كانت رحلتهما طويلة في الليل والنهار، يجمعهما حديث وإرهاصات فكريّة كثيرة، قرّرا أنْ يستريحا قليلاً ويتناولا غذاء من التمر وبعض رقائق الخبز اليابس. قال عليّ لصديقة أحمد:
-هل تعلم أنّنا نسير وحياتنا مقدّرة؟
ابتسم أحمد له وأشرق وجهه لحوار قد يقتل هذا الوقت والخوف الذي كان مصاحباً لهما طوال هذه الرحلة وردّ عليه:
-إنْ قدّر الله أفعالي عليه إذن عدم محاسبتي !.
كان معتاداً على فلسفته في الوجود وانغماسه فيها، أجابه:
-إنّ الحرية تعبير حقيقيّ عن الوجود الذي يضحّي الإنسان من أجله
-إذن.. الوجوديّة هي فلسفة الحريّة التامّة في التفكير دون قيود، ردّ عليه بحروف خرجت من بين صرير أسنانه:
-للآن أنت تعتقد أنّنا نقتات من الأوهام؟!
-لا.. لكنّني مازلت أبحث في أنّ الوجود الذي أراه لا يراه غيري،
مدّ عليّ يده على مكان المخّ في رأس أحمد وقال:
-الحقيقة الثابتة هي وجود الله يا صديقي.. لا تنسَ أنّ الحلم هو الغطاء الوحيد عن الوجود والعدم والنفي والإثبات.
أجابه بكلّ ثقة:
-أنا أدافع عن الحياة قبل الدخول في متاهات القيامة ونفيها.. فهي لا تعنيني ولا أريد إثباتها
-لكنّ الحكماء استطاعوا أن يسبروا الغور ليصلوا إلى الإثبات
ابتسم له وهو يردّد : نعم لكنّ أحكم الحكماء لم يستطيعوا إسبار الغور في غربتهم واكتشافها
-لا أبداً.. إنّك مخطئ.. إنّ الحكيم عالِم يرتدي رداءً من قماش خشن يخفي ما هو ثمين داخله
وقف على قدميه وطالب صديقه مواصلة السير من جديد، والآخر لا يريد السكوت دون تكملة هذا الجدال:
-لو نتخلّص من الحكمة والحكماء والفطنة.. سيصبح الناس في أحسن حال!.. وترك الجدال مع أولئك الذين يجادلون دون حكمة
لم يشعر إلّا بصفعة على قفاه شقّت هدوء المكان
-إذن اصمت وسر أيّها المتحذلق.. من ذاك الذي يجادل دون حكمة؟!
ضحك أحمد وقال له:
-هل تعلم أنّك كمن يحمل الإنجيل بيد والفكر اليساريّ بيد وقلبه ذهب إلى الإسلام؟!.. وكان هذا سبب كافٍ لكي يشي بكَ جارك المتأسلم حديثاً إلى رئيس تنظيمه الحزبيّ وتهددّ بالقتل، ردّ عليه بغضب:
-لا.. تبّاً لهم إن استطاعوا الغور في ذاتي ومعرفة ماهيّته.. لكنْ أنت هو السبب أيّها الملحد وتلك الصداقة التي تربطني بك!!
ضحك الاثنان من تلك السخرية التي جمعتهما معاً..
دخلا حقلاً لسنابل حنطة وكان الوقت ليلاً، وصمت المكان لا يشقّه سوى صوت خطى أقدامهما على سيقان السنابل، ولم يتبقّ سوى بضعة عشرات من الأمتار للوصول إلى ضفّة الأمان. وفي لحظة سُرقت من زمنهما، قفز أرنب أمامهما وكأنّه يهرب من شيء ما، قفز الاثنان من شدّة الخوف وكاد نبض قلبيهما يتوقّف، أراد احمد التخفيف عن صديقه الكبير وإدخاله بجدال آخر ينسيه الذي حدث:
-لا تخف يا عليّ فلا شيء يتحرّك دون سبب كما هو هذا الأرنب.. لا شيء يتحرّك من تلقاء نفسه.. دائماّ هناك أسباب
-وهل تعلم أنّني متّ قبل الآن؟ (قالها عليّ بأسى كبير وصوت به شجون) -صدّقني يا أحمد.. أنا متّ ولم يكن حلماً.. والآن أنا أمضي إلى ما لا أعرفه!
-هه.. وإنْ متَّ؟.. ستكون كالبذور التي تموت لتخضرّ من جديد.. ففي موتك ولادة
-حقّاً.. كلّ شيء يعود إلى أصله الذي صدر عنه.. وهذا هو النمط الأبديّ.. العودة إلى الهدوء والسكينة.. وإنِ اختفى الجسد في خضمّ محيط الوجود سيكون بعيداّ عن كلّ أذى.
ما أنْ أكمل جملته الأخيرة حتّى اخترق جمجمته طلق ناريّ لقنّاص في برج، كان يراقب حدوداً لم يخرج منها أحد يسير على قدميه، الرصاصة كانت قريبة جدّاً مِن أذن أحمد، شعر بحرارتها عند مرورها وقد حرّكت خصلات شعره، خلّفت طنينا في الأذن أصابها بالخرم، وسادت لحظات سكون، سقط على الأرض وامتزجت دماؤه بسيقان السنابل وحنطتها الخضراء، أصابت أحمد الصدمة والذهول وتسمّرت قدماه، عرف أنّ القنّاص لم يشاهده هو بل شاهد صديقه طويل القامة، حاول أن يهرب من المكان بسرعة والدموع تتساقط منه أسرع من تلك الرصاصة التي اخترقت رأس صديقه، عبر الحدّ الفاصل بين البلدين، شعر بالأمان وأدرك لأوّل مرّة في حياته أنّ كلّ شيء قابل للتغيّر؛ الفكر، العقائد، القناعات، القدوة، الرموز، وكلّها لا تستحقّ أن يضحّي الإنسان بحياته من أجلها، فحياة ذلك الصديق كانت عنده أغلى بكثير من كلّ هذا الهراء.

اترك رد