منبر العراق الحر :
فى زمن تتحول فيه المعلومة إلى سلاح، يصبح التحكم فى تدفقها جزءًا من معركة أوسع لإعادة تشكيل الواقع. لا يتعلق الأمر بقول الحقيقة أو حتى التلاعب بها، بل بإغراق الفضاء العام بسيل من الرسائل، بحيث يفقد الناس القدرة على التمييز بين المهم والتافه، بين الحقيقة والزيف. هذا التكتيك، الذى يعتمده سياسيون مثل دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو، لا يهدف إلى الإقناع بقدر ما يسعى إلى إنهاك الخصوم وإرباك الرأى العام، حتى يصبح من المستحيل اللحاق بكل التطورات أو تصحيح كل الأكاذيب.
*إستراتيجية التشويش الممنهج*
لنفهم هذا التكتيك، لا بد من إدراك أنه لا يقوم على فكرة نشر رواية واحدة، بل على خلق حالة من الفوضى المعلوماتية. عندما يطلق ترامب سلسلة من التصريحات المثيرة للجدل – بغض النظر عن صحتها – فهو لا يسعى إلى تبرير موقفه، بل إلى إشعال نقاش متواصل يستنزف طاقة الإعلام والمعارضة. كلما انشغلوا بتفنيد تصريحاته، كان يطلق مجموعة جديدة، فيتحول المشهد إلى ما يشبه دوامة لا نهاية لها.
الأمر ذاته ينطبق على نتنياهو، الذى يجد فى تصعيد الخطاب والتصريحات المتناقضة وسيلة لإبعاد الأنظار عن أزماته الداخلية. على سبيل المثال، عندما يواجه ضغوطًا بسبب إخفاقات عسكرية أو فساد سياسى، فإنه يوجه الرأى العام نحو قضايا أخرى، سواء بالتصعيد العسكرى أو بتصريحات تهدف إلى إعادة صياغة الأولويات الإعلامية.
*عندما يصبح التفاعل جزءًا من الفخ*
تكمن خطورة هذه الاستراتيجية فى أن مجرد الرد عليها يعزز من فعاليتها. فبدلًا من التركيز على القضايا الجوهرية – مثل إخفاق إسرائيل العسكرى فى غزة أو التهديدات القانونية التى تلاحق ترامب – يجد الإعلام نفسه غارقًا فى مناقشة التصريحات الجدلية. هنا، لا يقتصر الأمر على حرف الأنظار، بل يتم خلق واقع جديد تتداخل فيه الأكاذيب مع الحقائق، مما يجعل إعادة ترتيب الأولويات أمرًا بالغ الصعوبة.
هذا لا يعنى أن التجاهل هو الحل، ولكن لا بد من وضع استراتيجيات مضادة تركز على جوهر الأزمات بدلًا من الانجرار وراء تفاصيل مصممة سلفًا لإشعال الجدل. الفوضى المعلوماتية ليست مجرد نتيجة لوسائل الإعلام الحديثة، بل هى سلاح يستخدم بوعى من قبل سياسيين يدركون جيدًا كيف يسيطرون على السردية العامة.
*إعادة ضبط المعادلة*
إذا كان الهدف من استراتيجية الفوضى هو إنهاك الخصوم، فإن التصدى لها يتطلب وعيًا مضادًا. لا يجب أن يكون الإعلام أو الجمهور مجرد متلقٍ للرسائل العشوائية، بل لا بد من وضع إطار تحليلى يعيد ترتيب الأولويات. بدلاً من التفاعل مع كل تصريح، يجب التركيز على السياق الأوسع: لماذا يتم طرح هذا الخطاب الآن؟ ما الهدف من تغيير مسار النقاش؟ وكيف يمكن إعادة تسليط الضوء على القضايا الجوهرية؟
فى النهاية، تظل الحقيقة هى الهدف الأسمى، لكن الوصول إليها فى عالم يغرق فى الضوضاء يحتاج إلى أدوات جديدة، قادرة على اختراق الفوضى دون أن تصبح جزءًا منها.
