منبر العراق الحر :
في واقعة غير مسبوقة، قرر الصحفي جيفري جولدبرغ رئيس تحرير موقع “أتلانتيك” نشر مقال من اربعة عشر صفحة يتحدث فيها عن تفاصيل دقيقة عن خطة عسكرية أمريكية لضرب الحوثيين في اليمن. وتعد هذه الواقعة، واحدة من أكثر الهفوات الأمنية إثارة للجدل في تاريخ الولايات المتحدة، حيث وجد الصحفي جيفري جولدبرغ نفسه فجأة داخل دائرة مغلقة من كبار المسؤولين الأمريكيين، يناقشون خططاً عسكرية سرية لضرب الحوثيين في اليمن. كيف حدث هذا التسريب غير المقصود؟ وما هي تداعياته على الأمن القومي الأمريكي؟
*كيف حدث التسريب؟*
تبدأ القصة عندما تم إضافة جولدبرغ بالخطأ إلى مجموعة تُسمى “مجموعة الحوثيين الصغيرة”، وهي مجموعة خاصة على تطبيق “سيغنال”، وهو تطبيق يستخدمه العديد من الصحفيين والمسؤولين لنقل المعلومات الحساسة بأمان نسبي. لم يكن جولدبرغ يتوقع أن يجد نفسه وسط مجموعة من كبار المسؤولين في إدارة ترامب، بمن فيهم وزير الدفاع، ومستشار الأمن القومي، و وزير الخارجية، ومدير الاستخبارات. وقد حصل الصحفي على تفاصيل دقيقة عن الضربة المخطط لها، بما في ذلك الأهداف، والأسلحة المستخدمة، وتوقيت الهجوم، والتبريرات السياسية. الأغرب من ذلك، أن المسؤولين في المجموعة استخدموا رموزاً تعبيرية (إيموجي) للتعليق على سير العملية.
في البداية، اعتقد الصحفي أن الأمر مجرد خطأ تقني أو ربما محاولة تضليل من جهة معادية، لكن مع توالي الرسائل والمعلومات الحساسة التي تضمنت تفاصيل تسلسل الهجوم والأهداف المحددة، بدأ جولدبرغ يدرك فداحة الخطأ الذي حدث. تأكدت شكوكه عندما رأى بأم عينيه أن العملية التي كان يقرأ تفاصيلها في المجموعة قد نُفذت بالفعل بعد ساعتين من مناقشتها، وذلك بعد أن بحث عن أخبار حول اليمن في منصة “إكس”.
*تهديد الأمن القومي الأمريكي*
وجود شخص غير مصرح له داخل مجموعة تناقش أمور عسكرية رفيعة المستوى يشير إلى نقص خطير في الضوابط الأمنية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تسريب معلومات بالغة السرية إلى جهات معادية. ولو كان هذا الصحفي مرتبطاً بجهة استخباراتية معادية، لكان بإمكانه تسريب المعلومات إلى الحوثيين، مما يمنحهم فرصة لتغيير مواقعهم العسكرية أو حتى شن هجوم استباقي ضد القوات الأمريكية أو الحلفاء في المنطقة.
ما جعل الأمر أكثر إثارة للدهشة، هو استخدام كبار المسؤولين الأمريكيين لهذا التطبيق التجاري في مناقشة قضايا أمنية حساسة، مما يفتح الباب أمام احتمالات اختراق أمني خطير. كما أثار نائب الرئيس الأمريكي، جيدي فانس، جدلاً داخل المجموعة عندما عبّر عن اعتراضه على العملية، معتبراً أنها لا تخدم المصالح الأمريكية المباشرة بل تصب في مصلحة أوروبا، مشيراً إلى أن واشنطن لا تعتمد على البحر الأحمر إلا بنسبة 3% في تجارتها، بينما تعتمد اوروبا على البحر الاحمر بنسبة 40% في تجارتها. هذه مشكلة الأوروبيين، فلماذا نتحمل نحن أعباء هذه المواجهة المكلفة؟ ينبغي علينا البحث عن بدائل لتحميلهم الثمن، خاصة إذا نجحت العملية.
*تداعيات سياسية داخل واشنطن*
بعد انكشاف الأمر، سارع البيت الأبيض إلى احتواء الأزمة، وبدأ مجلس الأمن القومي الأمريكي تحقيقاً في كيفية وقوع هذا الخطأ، مؤكداً أن إضافة جولدبرغ للمجموعة لم تؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي، لكنه كشف عن ثغرة أمنية تستوجب المعالجة الفورية.
أما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فقد نفى علمه بالحادثة، وقلل من أهمية الموقع الذي نشر القصة، واصفاً “أتلانتيك” بأنه موقع “فاشل”، لكنه لم ينكر أن الحادثة تثير تساؤلات جدية حول آلية تداول المعلومات السرية داخل إدارته. وربما هذه التسريبات تعرض الصحفي جولدبرغ الى مسائلة قانونية.
هذه الحادثة ستثير موجة من التحقيقات والمساءلات داخل الكونغرس حول مدى أمان استخدام تطبيقات المراسلة التجارية، مثل “سيجنال”، في تداول معلومات حساسة. كما ستؤثر على علاقة الصحافة بالإدارة الأمريكية، حيث قد تؤدي إلى فرض قيود مشددة على تسريب المعلومات للصحفيين.
وفي ظل الجدل القائم، يبقى التساؤل الأهم: كيف يمكن لمثل هذا الخطأ الفادح أن يحدث داخل أقوى حكومة في العالم؟ وهل ستؤدي هذه الحادثة إلى إعادة النظر في طرق التواصل الأمني داخل الإدارة الأمريكية؟ ربما يكون هذا التسريب مجرد قمة جبل الجليد في عالم مليء بالأسرار والخفايا الأمنية.
*دروس مستفادة وتداعيات مستقبلية*
1. ضرورة تعزيز الأمن السيبراني في المؤسسات الحكومية الأمريكية، وتجنب استخدام التطبيقات التجارية لنقل المعلومات العسكرية الحساسة.
2. إعادة تقييم بروتوكولات الاتصال بين المسؤولين لتقليل مخاطر التسريبات غير المقصودة.
3. زيادة الرقابة على استخدام وسائل التواصل، خاصة بين صانعي القرار في الإدارة الأمريكية، لمنع تكرار مثل هذه الحوادث.
4. تأثيرات سياسية وانتخابية، قد تستخدم هذه الفضيحة ضد الجمهوريين، وخاصة في الانتخابات القادمة، كمثال على فشل إدارة ترامب في إدارة الأمن القومي.
