جمعة الوداع.. حين يهمس العيد في ذاكرة الزمن….. كتب رياض الفرطوسي

منبر العراق الحر :
تمضي الأيام كأنها حبات مسبحة تنفرط واحدة تلو الأخرى، وها نحن نصل إلى الجمعة الأخيرة من رمضان، تلك المحطة التي تفيض بمشاعر متداخلة من الحنين والرهبة، كأن الزمن يسابقنا ليختلس من بين أيدينا آخر أنفاس الشهر الكريم. لحظة تسبق الوداع، ولكنها تحمل في ثناياها أصداء فرح آتٍ، وضوء عيدٍ يلوح في الأفق.
كان العيد في الماضي أكثر من مجرد احتفال، كان سيمفونية من البهجة تُعزف بأصوات الضحكات، وألوان الثياب الجديدة، وروائح الحلويات التي تتسلل إلى الأزقة معلنةً أن الفرح على الأبواب. كانت “الكليجة” طقساً لا يُفرَّط فيه، نكهة لا يكتمل العيد دونها، تقف حولها الأمهات كالمايسترو يقُدن جوقة من الأيدي المغموسة في العجين، يتبادلن الوصفات والضحكات، بينما يتصاعد عبق الهيل والسمن ليحمل معه ذاكرة الطفولة والماضي.
أما الأسواق، فكانت مسرحاً آخر للبهجة، حيث يتجول الآباء بحثاً عن فرحةٍ تُخاط على مقاس قلوب أبنائهم. لم تكن الماركات تهم، ولا بهرجة العلامات التجارية، بل كانت السعادة تُقاس بمقدار الضحكة التي تضيء وجه طفلٍ يرتدي ثوبه الجديد لأول مرة، أو بحذاء يلمع في ضوء صباح العيد، كأن الدنيا كلها اجتمعت في تلك التفاصيل الصغيرة.
كان العيد آنذاك لقاءً أكثر منه طقساً، فرحاً خالصاً ينسكب في فناجين الشاي، ونقرات الملاعق فوق صحون الحلوى، وفي دفء كفٍ تمتد لتعطيك قطعة من محبة خُبزت بقلوب نقية. لم تكن مظاهر الفرح تُشترى، بل كانت تُصنع، تُخبز، وتُهدى بمحبة خالصة.
ومع مرور الزمن، تغيّرت ملامح العيد كما تغيرت الحياة. خفتت رائحة الكليجة في الأزقة، ولم تعد الأفران تغص بالنساء اللاتي كن يصنعن الفرح بأيديهن. تسارعت الأيام حتى بدا أن الزمن نفسه لم يعد يمنحنا فسحة لنتذوق العيد كما كان. ومع ذلك، فإن العيد، في جوهره، يظل كما هو، يحمل إلينا جرعةً من الفرح، ويذكّرنا أن للحنين مكاناً في قلوبنا، مهما تبدلت العادات وتغيرت الطقوس.
العيد ليس يوماً عابراً، بل قصةٌ تتكرر، وأغنيةٌ تُعزف على أوتار الروح كل عام. هو بابٌ مشرعٌ للفرح، فرصةٌ لنعود أطفالًا للحظات، لنحتضن الذكريات، ولنعيد كتابة تفاصيل الحب في حياتنا من جديد. فالعيد ليس في الثياب الجديدة، ولا في الموائد العامرة فحسب، بل في القلوب التي تتسع للمودة، وفي الأرواح التي تهب الفرح دون انتظار مقابل.
كل عام وأنتم بخير، وأعاد الله عليكم العيد بالسعادة والسرور.

اترك رد