منبر العراق الحر :
ضحك التلاميذ يوم قاد الحماس بعض المعلمين ليحتفوا بذكرى الموت الغامض لغارسيا لوركا، ولم يتجرأ أحدهم ليلفظ الاسم إلا مع تصغيره كما عادتهم مع الأسماء التي يستمعون إليها لأول مرة، وحين صرفنا التلاميذ إلى بيوتهم قبل نهاية الدرس الأخير لنحتفل بشاعر روح الغجر والذاكرة الأندلسية أخبروا أهليهم أنهم جاؤوا مبكرين بسبب رجل صغروا اسمه كما يفعلون مع اسم جاسم ليسموه (جويسم) فسموه (لويركا).
لقد صَغرتْ براءتهم الاسم الكبير وسكن تحت رموشهم بعض الذعر الخفي حين علقَ أحد المعلمين على جدار القصب في الصف الخامس لوحة بيكاسو (جورنيكا).
الارتباك في شخصيات اللوحة وغرابة الموضوعة جعلت التلاميذ يعتقدون أنهم يشاهدون أشكالاً لعفاريت تخرعهم (وجوهها وأشكالها) لهذا لم يقتربوا إليها كثيراً، وفرحوا حين غادروا الصف مسرعين إلى بيوتهم وهم يتأملون أشهر لوحات القرن العشرين بشيء من الحذر والبعض تمنى أن لا تزوره وجوه اللوحة في منامه.
ولكنهم في اليوم الثاني طلبوا من معلم الرسم تفسيراً لهذه الوجوه فتطوعتُ أنا لأشرح لهم وببساطة ماذا تعني هذه اللوحة.
واحد فقط (مسعد) استوعب شيئاً من كلامي وفهم بعض مشاعر أولئك المفزوعين من قصف الطائرات الفاشية الذين رسمهم بيكاسو ليقول لأهل الأهوار: لا تذهبوا بأولادكم إلى الحروب ليصيبهم الفزع الذي أصاب جورنيكا.
مسعد علّق بعد أن تأمل اللوحة جيداً:
لقد فهمت شيئاً منها لأن فيها قرون لثور. وأضاف ببراءته ينظر لرؤياه: سأرسم واحدة مثلها لقد مللتُ رسم المشاحيف والسمك والصرائف.
ضحك زملاؤه في الصف وقالوا: هيه مسعد سيرسم السعلوة والجني.
وحدهُ مسعد من يقف أمام اللوحة ويتأملها بعمق، ويبدو أنه كان يأخذ لذاكرته بعضاً من أجزائها كل يوم، يقطعها بعينيه ويذهب مع هذا المقطع إلى البيت ويرسمه.
ذات يوم أتى مسعد بكارتونة كبيرة وقد رسم فيها جورنيكا بطريقته الخاصة.
صفق له المعلمون، واستغربت أن مسعد لعدم توفر الحبر والأصباغ رسمها بفحم القصب.
فأتت في صورتها شيئاً لا يشبه جورنيكا، بل هي أشكال هيلامية رسمها لمجرد أن يفرغ إحساسه في اللوحة.
وعلى الرغم من هذا أعطاه معلم الرسم عشرة من عشرة، وأخذ اللوحة من الطفل وقال: سأرسلها إلى واحدة من الجرائد وأكتب تحتها هذه جورنيكا رسمها مسعد بقصبة وكما تخيلها هو وليس بيكاسو.
ذات يوم وأنا أسير في شوارع مالقا حيث ولد بابلو بيكاسو، يفوح عطر الليمون ويأخذكَ ظل الزيتون إلى حركة ثياب غجريات الفلامنكو قريباً من خلاخيلهم الفضية، يأتي وجه بيكاسو مدافاً بلحظة اندهاش مسعد وقراره رسم اللوحة.
وعلى الرغم من أن ما رسمه لا يشبه تماماً ما رسمه الرسام الإسباني إلا أن وجه مسعد في لحظة الشوق إلى تلك الأيام، كان بديلاً عن وجه بيكاسو ومرسوماً على كل جدران المدينة الأندلسية.
لحظة وفوجئت بجدارية وسط ساحة المدينة مرسوماً عليها الرسام المالقي بيكاسو وهو يحتضن الطفل مسعداً ليشكرهُ بعد أن أهداه قصبة ليرسم فيها.
