منبر العراق الحر :
سكنت دمعة فرجينيا وولف ذاكرتي وأنا أتخيل المشهد الذي قررت فيه أن تودع الحياة ، وربما هذه الدمعة هي من بعض الهواجس التي دفعتني لكتابة روايتي ( بكاء مقابر الإنكليز في بابل ) ، لكني لن أتحدث عن الرواية الآن ، بل سأتحدث عن تواريخ دمعة فرجينا وولف وتأثيراتها على الحياة في العالم الغربي والشرقي.
وسأبدأ منذ اللحظة التي أغمضت فيها فرجينيا وولف مودعة العالم بانتحار لبس رداء اليأس جراء التغير الروحي الذي لم يعد يلائم العصب الحسي الذي أرادت فيه وولف أن تجد فردوساً حالماً في اشتغالها القصصي عبر تجارب بدت بائسة في كل صورها لهذا ومنذ اللحظة التي أغلقت فيها وولف عينيها تغير كامل المشهد الإنكليزي ، وبدأت إنكلترا تفقد مستعمراتها واحدةً تلو الأخرى ، وكأن شبح الحرب قد أغاظ الرومانسية السكسونية كثيراً ، وجاءت رغبة العرافة ( سيبيلا ) في بدء قصيدة اليوت الأرض اليباب لتعبر تماماً عن ذهنية الموت الذي سكنت أليه فرجينيا وولف ، .
بعيداً عن كل هذا كان ونستون تشرشل ينشغلُ بتعليم ببغاءه جمل السباب التي ينطق بها أتجاه هتلر وموسليني ومازال الى اليوم ينطق بها الببغاء بالرغم من وفاة مالكه منذ عشرات السنين ، لأن تشرشل مات والببغاء لازال حياً يرزق كذا تود الذاكرة الإنكليزية كي تجعل من تلقين الببغاء نمطاً أزلياً يذكرها بآخر أباطرة مجدها الأممي : ونستون تشرشل .
غير أن الذاكرة الإنكليزية تتميز باحتفائها بالمنجز الذي يدخل الى الحياة من خلال الجد وليس من خلال القدرية ولهذا أظهر المفهوم الجرماني منذ أن دون توشسر قصائده قبل الإحساس العالي بالوجود الذي بشر به شكسبير ، أظهر بعض تودد الحس الرومانتيكي لدى العقلية الإنكليزية بالرغم من أنها هيأت تماماً بعد عودة الملك ريتشارد قلب الأسد سالماً من الحروب الصليبية ، هيأت نفسها لتعيش كونية جديدة يستلزم منها أن تستغل الفراغ الحضاري المصنوع من انهيارات الإمبراطوريات القديمة ، وأهما انهيار الإمبراطورية الرومانية بعد سقوط عاصمتها القسطنطينية على يد السلطان العثماني ، ( محمد الفاتح )
ولكي تفهم بريطانيا عليك أن تفهم تأريخها المدون منذ تأسيس شركة الهند الشرقية وحتى مؤتمر يالطا ، ويكاد أن يكون القرن العشرين هو القرن الذي خلع فيه الثوب عن الجسد الإنكليزي وبان كل شيء . جبروت المملكة وعظمتها ، هزائمها وأخطاءها ، حروبها وآدابها . وأخيراً ترى دموعها المتساقطة من ساعة بغبن الشهيرة وهي تفقد مستعمراتها واحدة ، واحدة.
والقارئ للأدب الإنكليزي المدون في القرن العشرين ينقاد الى فهم واضح لما آلت أليه أمور هذه الإمبراطورية التي كانت الشمس لا تغيب عن مستعمراتها ، ويمكن أن نعتبر مقولة ممثل الملكة في الهند حين رأى حجم الحشود التي نظمها المهاتما غاندي في مسيرة الملح والقائلة : { يبدو أن غروب الشمس بدأ يتحرك الى نهايته } قد تحقق فعلياً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مع تزايد الوعي القومي والوطني للشعوب التي كانت خاضعة للتاج البريطاني . ولقد مثل هذا الأدب الذي كتب في القرن العشرين انعكاسا لمعاناة الذات الإنكليزية في ذائقة أدبية رفيعة . صنعت من إحساسها بانهيار الروح أدباً كان يقرأ على أنه أدب الرقي والكمال في صورة المعنى الذي تريد أن تبقيه منذ أن منحنا شكسبير الخلود على المسارح وصارت سونيتاته الشعرية فصولاً في قراءات طلبة أكسفورد ومنهجا حكيماً وصارماً للمدارس الإنكليزية في مصر والعراق والسودان وفلسطين . فالمفكر الأمريكي ، الفلسطيني الأصل أدوارد سعيد يقول : أن الإنكليزية لاتعني شمولية في نطق اللغة لامتيازات ملكتها من أرث استعماري قديم . أنها فكرة متنورة بفضل الأداء الروحي لفن شكسبير وجودة اللغة في يوليسيس وفهمها للمتغير الكوني كما في الأرض اليباب لأليوت .
