منبر العراق الحر :
في منطق الرسم وقناعة الرسامين: مَن يريد التحرُّر مِن نُظُم الرسْم الكلاسيكي، أَن يُتْقنَه أَوَّلًا، ثم يخرج عنه فيُطوِّر نهجًا له خاصًّا لا يكون مسْخًا بدون قواعد، بل متجدِّدًا من داخل المتاح له في الأُصول، لا من خارج هذه الأَخيرة.
قياسًا على ذلك، وهو ثابتٌ عبْر مراحل تاريخ الفن، يكون العمل الفني مسارًا لقيطًا ينتهجه من يجهل الأُصول أَو يقصِّر عنها، فيدَّعي تجديدًا ليُخفي جهله أَو تقصيره.
في هذا السياق، أَعرض اليوم رسامةً من القرن الثامن عشر، ما زالت لوحاتها نضرةً كأَنها حديثة العهد من زمننا المعاصر، فيها قوَّةُ البقاء التي تحفظُها الكلاسيكية لروادها، والمؤْمنين بها، والعاملين بقواعدها وأُصولها القديمة أَو المتجدِّدة مع العصر.
إليزابيت لو بران
هي إِليزابيت ڤيجيه لوبران Vigée LeBrun (1755-1842). رسامة فرنسية معتبَرة إِحدى أَبرز رسامي الوجوه في عصرهاِ. كانت طريقتُها وموهبتُها دعامتَيْن لشهرتها بتلك البراعة في أَواخر القرن الثامن عشر، سواء مع الثورة الفرنسية أَو ما بعدها. وبهذه الصفة كانت تباعًا رسامةَ القصر الملكي، وماري أنطوانيت، ولويس الخامس عشر، ومملكة نابولي، وبلاط أَمبراطور فيينّا، وبلاط أَمبراطور روسيا. وهي رسمت لوحات عدة لوجهها وقامتها، بينها اثنتان مع ابنتها الوحيدة جولي.

جرأَة العصر
ما زاد من شهرتها وتكليفها وضعَ لوحات وجوه، أَنَّ في مجوعتها الكاملة من 900 لوحة، نحو 660 لوحة لوجوه وقامات. ومع أَنَّ الرسامات كنَّ ممنوعات من عرض أَعمالهن، وَضَعت إِليزابيت بعض اللوحات لمواضيع ميثولوجية، بينها لوحتُها الشهيرة “السلام يعيد إلى الرخاء” (1780) وهي التي كانت مدخلها إِلى الأَكاديميا الملَكية للرسم والنحت” (تأَسست سنة 1840 وأَطاحتها الثورة الفرنسية سنة 1893).

تلك اللوحات التي وضعتْها للوجوه، ومعظمها لوجوه نساء، اعتبرها النقَّاد في منزلة وسطى بين فن “الروكوكو” الزخرفي والكلاسيكية المحْدثة. ولأَنها ابنةُ رسام (لويس فيجيه – اشتهر بالپاسْتِل) كان طبيعيًّا أَن تنشأَ إِليزابيت في جو فني، وتتأَثَّر به منذ طفولتها الأُولى. ومع تدرُّجها صبيَّةً، وبداياتها في رسم الوجوه، صقَلت موهبتها بالتعلُّم لدى رسامين كبار في عصرها.
البدايات في البلاط الملكي
كانت في الثالثة والعشرين يوم استدعاها ملك فرنسا لويس السادس عشر إِلى بلاطه. ومن أَبرز لوحاتها في البلاط: ماري أَنطوانيت التي نالت لديها حظوة امتدَّت عشر سنوات، رسمَت خلالها نحو 30 لوحة للملكة وأُسرتها، وكرَّسها الملك رسامة الأسرة الملكية، إِلى أَن انهارت هذه باندلاع الثورة الفرنسية. وبفضل لوحات إِليزابيت، تمكَّنت الملكة من نشْر شهرتها كزوجة ووالدة، ما دحض تهمًا نقدية كثيرة صدرَت عنها من أَنها خائنة زوجها، وهو ما تبيَّن لاحقًا بأَنها تهمة صحيحة.

سنوات النفي
بين مئات لوحات إِليزابيت عن الوجوه، ثمة ملكات وكتَّاب وأَشخاص ذوو نفوذ وتأثير إِبان نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر من كل أُوروبا. وكانت إِليزابيت أُرغمَت على النفي من فرنسا سنواتٍ، خلال الثورة الفرنسية وما بعدها. ومن لوحاتها تلك الفترة: ستانيسلاف بونياتوفسكي آخر ملوك بولندا، وآنييلّا رادسيويلونا وهيلينا بوتوكا.
الرسم مهنة مُربحة
تلك الحصيلة من اللوحات، تدلُّ على أَن إِليزابيت كانت قادرة على تأْمين مدخولها من رسم لوحات الوجوه والأَشخاص، وهو ما لم يكُن مؤَمَّنًا لكثيرين من رسامي تلك الحقبة. لذا كانت مقصد الأَعلام المشهورين كي ترسم وجوههم.
خلال أَسفارها المتعددة، انتسبت إِلى “أَكاديميا سانت لوقا” (روما)، وإِلى “جمعية تقَدُّم الفُنون الجميلة” في جنيف، و”أَكاديميا الفنون الجميلة” في سانت بيترسبورغ.

ومن عناصر شهرتها في هذا العصر، أَن المخرج آرنو كْزيْنْتْ أَطلق عنها سنة 2015 فيلم “إِليزابيت فيجيه لو بران – القدر الجميل”.
هنري زغيب–النهار