العصب المكشوف ….كتب رياض الفرطوسي

منبر العراق الحر :
في عمق الرمال اللاهبة التي لا تبردها البحار ولا تهدهدها الوعود، يتمدد الخليج ككائن مغموم، يختنق بهدوء تحت وطأة العيون المتربصة. هناك، عند خاصرة الأرض حيث يتقلص البحر إلى مضيقٍ ضيق، يتهيّأ المشهد لمأساة محتملة. هرمز، هذا الجرح الأزلي المفتوح على المدى، لا يشبه ممراً مائياً فحسب، بل يبدو كأنّه شريانٌ نافر في جسد العالم، ينبض بثقله وقلقه واحتراقاته.
ليست هذه مجرد مياه تمر بها السفن. إنها خلاصة الاقتصاد العالمي، وزبدة الصراعات الكبرى، ونقطة العصب التي إن ضغطتها الحروب انفجرت خريطة الطاقة، واختنقت عواصم بأكملها بالسعر والقلق. وكلما اشتدت الريح، ارتجف هذا الشريان كوترٍ مشدود على حافة الانفجار. إيران، بظلها الثقيل الممتد ككابوس عبر الحدود، تعود إلى مسرح الأزمات بكل أدوات التلويح القديمة والجديدة. لا تصرخ، لكنها تهمس بما يكفي لإرباك الموازين.
الإدارة الأمريكية، وقد استعادت حماستها للعقوبات، لا تخفي نيتها في شدّ الطوق أكثر. الكلمات لا تُقال كاملة، لكنها مفخخة بالإشارات. الردّ الإيراني، كما يتوقعه الجميع، ليس بياناً سياسياً، بل احتمالية لصدامٍ عسكري يبدّل الخريطة ويكسر الهدوء النسبي الذي يحرس الممر. أما الأمم المتحدة، فتقف كما تقف الساعة حين ينفد الزمن: شاهدة على العجز، لا حَكماً. ثلاث دول—فرنسا، بريطانيا، والولايات المتحدة—تلوّح بأقلام الردع، تستحضر حقاً غامضاً في مواجهة خطر يُوصف بأنه ضد السلم الدولي، لكن لا معاهدة تضبط الغضب ولا ضمانة تمنع الانفجار.
المضيق، ذاك العصب المكشوف، يضيق في المسافة ويتسع في الرهانات. لا يتجاوز الممر البحري الصالح لعبور الناقلات ثلاثة كيلومترات، كأنما القدر ضيّق الحنجرة ليرى من يخنق أولًا. الذاكرة تستحضر عملية “فرس النبي” عام 1987، ( عملية “فرس النبي” _ Operation Praying Mantis_ هي عملية عسكرية نفذتها الولايات المتحدة في 18 أبريل 1988 ضد القوات البحرية الإيرانية في الخليج العربي، وتُعد أكبر اشتباك بحري أمريكي منذ الحرب العالمية الثانية. جاءت العملية رداً على تلغيم إيران للخليج خلال الحرب العراقية-الإيرانية، والذي أدى إلى إصابة الفرقاطة الأمريكية “يو إس إس صمويل روبرتس” بلغم بحري في 14 أبريل 1988، مما تسبب في ثقب كبير بهيكلها وكادت تغرق.) يوم تناثرت الألغام في المياه واصطدمت السفن بجنون الرهبة. لكن التهديد الآن ليس في الحديد فقط، بل في الإرادة السياسية التي قد تقرر إغلاق الشريان بالكامل. خطوة واحدة، غير محسوبة، كفيلة بتجميد شرايين الاقتصاد من الكويت إلى قطر، ومن السعودية إلى الإمارات.
أوروبا تسمع دقات هذا النبض، وإن بدا بعيداً. شعورها بالقلق لا يأتي من فراغ، بل من حاجتها الأعمق للدفء، للوقود، للاستقرار. إنها تحاول أن تمسك بالخيط، بعقوبات هنا، واستراتيجيات شراكة هناك، لكن العيون تتجه إلى المدى الأبعد: واشنطن وتل أبيب، حيث تُدار لعبة الحافة، ويتم التفكير علناً في ضربات قد تصل إلى قلب طهران. لم يعد السيناريو مستحيلًا، ولا الحرب وهماً. كل ما في الأمر أن الضربة تنتظر لحظتها.
دول الخليج، رغم كل الاستعدادات، لا تمتلك رفاهية الاطمئنان. فالمعادلة المختلة تنذر بكل شيء، ولا تَعِد بشيء. العراق، رغم أنه لا يطل على المضيق، قد يختنق باحتمالات الأزمة، كما تختنق الرياض وأبوظبي والدوحة. هنا، في المدى الممتد بين الرمال والنفط، يعرف الجميع أن الجغرافيا ليست محايدة، وأن كل قرار هناك يُترجم أزمة هنا.
مضيق هرمز ليس مجرد ممر، إنه شريان العالم المكشوف، العصب الذي إن اهتز، ارتجف الاقتصاد، واهتزت معه العروش والحدود والخرائط. والمشهد، كما ترسمه اللحظة، ليس بارداً ولا عقلانياً. إنه مكشوف، متوتر، قابل للاشتعال. فحين يصبح مرور ناقلة نفط حدثاً جيواستراتيجياً، ندرك أن العالم، بكل جبروته، ما زال رهينة لمضيقٍ ضيق، يمكن أن يُغلقه قرارٌ واحد، أو رصاصة طائشة، أو سوء تقدير… في لحظة لا عودة منها.

اترك رد