إصلاح النقد الأكاديمي _نحو وعي نقدي حيّ …. عبدالكريم حنون السعيد

منبر العراق الحر :

1- مأزق النقد الأكاديمي

لقد أصيب النقد الأكاديمي في عالمنا العربي بنوعٍ من الجمود المنهجي، فأصبح كثير من النقاد أسرى القوالب النظرية الجاهزة،
ينقلونها عن المدارس الغربية دون روحٍ أو قراءةٍ لتجاربهم الخاصة.
فتحول النقد إلى لغة تقريريةٍ باردة تُحصي الأخطاء ولا تُضيء الجمال،وكأنّ النص الأدبي جثة تُشرح في مختبر اللغة لا كائنًا حيًا يتنفس الوجدان¹.
قلتُ في أحد حواراتي:
“الناقد الأكاديمي تحوّل إلى ريموند بلا حياة،
يعمل بدقةٍ رياضيةٍ ويغفل حرارة الجمال.”
وهذه ليست مبالغة، بل توصيف لواقعٍ يعاني انفصال النقد الأكاديمي عن الحياة الأدبية،
إذ غدا التحليل هدفًا بذاته،
وتحوّل النص إلى مادة تدريب لا إلى تجربة إنسانية.

2- ضرورة ربط التخصص بالذائقة

التخصص الأكاديمي شرطٌ للمعرفة، لكنه لا يكفي وحده.
فالعلم بلا ذوقٍ يفقد إنسانيته،
والذوق بلا علمٍ يفقد دقته.
ولذلك ينبغي أن يُبنى إعداد الناقد الأكاديمي على اختبارين متكاملين:
اختبار المعرفة العلمية، واختبار الفطرة الجمالية².
الذائقة هي أصل النقد، وهي المعيار الأول للحكم.
وقد أشار عبد القاهر الجرجاني إلى ذلك حين قال:
“الذوق هو الذي يميّز مواقع الحسن في الكلام.”³
إنّ النقد الأكاديمي الذي لا يراعي الذائقة يتحوّل إلى آلة خالية من الإحساس،
ولا يمكن أن يربي المبدع إلا من يمتلك حسًّا جماليًا حيًا.
وهذا يعني أن إصلاح النقد الأكاديمي يبدأ من إعادة الاعتبار للذوق الأدبي،
بوصفه جوهر النقد لا ملحقه.

3- أصول النقد بروح الأديب

ينبغي أن يتعلّم الأكاديمي كيف يكون أديبًا قبل أن يكون ناقدًا.
فالنقد ليس تحليلًا للغة فقط، بل قراءة للروح خلف اللغة.
إنّ الناقد الأكاديمي بحاجة إلى أن يقرأ الشعر والرواية لا ليُفككها،
بل ليعيشها كخبرةٍ إنسانيةٍ تُثري وجدانه قبل عقله⁴.
النقد الأكاديمي بحاجة إلى جرعة من الخيال الإبداعي،
وإلى ذوقٍ يجمع بين الدقة المنهجية والدفء الإنساني.
فالمنهج لا يُبدع وحده،
بل يُبدع حين يسكنه وجدان القارئ الحقيقي.
وهنا يتجلّى التوازن بين المعرفة والمنهج والروح.

4- النقد الأكاديمي والمبدعون الشباب

واحدة من مظاهر ضعف النقد الأكاديمي اليوم هي عزلته عن المبدعين الشباب.
فالجامعات تدرّس الأدب الكلاسيكي وتغفل الأصوات الجديدة،
مما جعل المسافة تتّسع بين القاعة الأكاديمية والحياة الأدبية الفعلية.
إنّ واجب الناقد الجامعي أن يمدّ يده للمواهب الصاعدة،
أن يقرأها، ويشجعها، ويُرشدها،
لا أن يُحاكمها بمقاييس عصورٍ مضت⁵.
فبهذا وحده يُصبح النقد الأكاديمي حيًا متجددًا،
ويتحوّل من برجٍ عاجي إلى مختبر حيٍّ للإبداع.

5- بين الصرامة والمنهج والرحمة الأدبية

الإصلاح لا يعني إلغاء الصرامة الأكاديمية،
بل إعادة الروح إليها.
فلا نقد علمي بلا منهج،
لكن لا قيمة لأي منهجٍ بلا إنسانية.
الصرامة مطلوبة لتثبيت المعايير،
لكن الرحمة الأدبية ضرورية لحماية الموهبة من التصلّب.
الناقد الأكاديمي الحقيقي هو من يمزج بين الدقة والإنصاف،
ويزن النص بميزان العدالة الجمالية،
فلا يُفرط في المنهج ولا يفرّط في الجمال.
وهكذا يتحقق التوازن الذي دعا إليه جورج لوكاش حين قال:
“النقد الحقيقي لا يقف عند الشكل بل يبحث عن الروح التي تحرّكه.”⁶

النتيجة

إصلاح النقد الأكاديمي يعني إعادة إنسانيته المفقودة.
إنه دعوةٌ لدمج العلم بالذوق، والمنهج بالروح، والصرامة بالرحمة.
فالنقد الذي لا يعلّم، ولا يربّي، ولا يُحبّ،
هو نقد بلا جدوى.
وعندما يُصبح الناقد الأكاديمي ضمير الأدب لا بيروقراطيته،
عندها فقط نستطيع القول إنّ النقد عاد إلى الحياة.

الهوامش والمصادر

1. عبدالعزيز حمودة، الخروج من التيه: دراسة في نقد النقد العربي المعاصر، عالم المعرفة، الكويت، 1998.
2. عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، دار المدني، جدة، 1982.
3. المرجع نفسه، ص 112.
4. حاتم الصكر، المغامرة النقدية: دراسات في النقد العربي المعاصر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2001.
5. صلاح فضل، أساليب السرد في الرواية العربية، دار الشروق، القاهرة، 1993.
6. Georg Lukács, The Theory of the Novel, MIT Press, 1971.
(جورج لوكاتش، نظرية الرواية، مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT Press)، عام 1971.)

اترك رد