لطيفة لبصير تكتب : الساعات الناعمة

منبر العراق الحر :

كلما نظرت إلى لوحة « الساعات الناعمة  » أو إصرار الذكرة » لسالفادور دالي، يثيرني منظر الساعات الذائبة بشكل يجعلني أرى الدقائق والثواني وكأنها تفر من بين أصابعي.

حين قرأت مصدر إلهام هذه اللوحة بدا ذلك غريبا حقا، فقد حدث أن انتابت الفنان غفوة من النوم تحت أشعة الشمس وكان بجانبه قطعة جبن « الكامومبير »، وحين استيقظ كانت لسعات الشمس قد لفحت رأسه، وكان الجبن قد ذاب تحت تأثير الشمس. وهو  يغالب أثرها، بدا له الجبن شبيها بالساعات وكأنها تذوب.

يبدو مصدر الإلهام وكأنه بعيد عن مفهوم الزمن وعن الساعات في حد ذاتها، لكنه ليس كذلك، فبفعل الزمن ذاب الجبن أيضا، وقد مر عليه وقت معين غير أحواله ولفح رأس سالفادور أيضا، إذ أن الزمن فوق رؤوسنا وفي داخلنا كل لحظة وهو يذوب مع كل ثانية جديدة .

حين انتقل ذلك إلى الفن، صار وكأنه زمن آخر لأنه امتلك حياة أخرى لا تبدو  في الحياة العادية، كما أن التآويل انصبت على الساعات، في حين كانت الساعات جبنا يذوب مع الزمن؛ إذ أن تحول الشكل الذي نعرفه جميعا عن الساعة التي تبدو صامدة فوق الجدار أو فوق الكومودينو، يكون قد تغير إصرارها الذي اعتدنا رؤيته .

كانت الساعات قد انتقلت فيما بعد إلى لوحة ما زالت تحير عقول الكثير من الناس، ولعل ذلك ما يجعلني في كثير من الأحيان أشعر بأن المشترك بيننا وبين الآخرين، ينبغي أن يكون أياد كثيرة مختلفة، سواء أكان موسيقى أم رسما أو كتابة أو طهيا أو طرزا أو تطبيبا أو أمومة…لأنه يجعلنا نعيش مع الآخرين؛ فما أصعب ما يحدث حين ننزوي كي نصبح جلدا باردا، منكمشا، بفعل تأثيرات الزمن ذاته، أو تأثير كل الأيادي الباردة التي تضعنا في الصقيع.

حين أتأمل الصباحات التي نسيت فيها حلاوة الصباح، أدرك تماما أنني نسيت قهوة الصباح والنادل الذي أراه كل يوم، وتحية الأصدقاء، وهاتف الأقارب، أتأمل ذلك حقا وأقول بأن جبن الكامومبير قد ذاب فعلا، وبأن رائحته المدوخة قد داعبت أنفي، لأنني نسيت المحطات التي كنت أتماس فيها مع البشر.

لم تنأ البشرية عن الإحساس بالعزلة أو الانهيار، فلطالما يدوخنا الإحساس بالابتعاد عن مصدر الأذى الذي يداهمنا من الآخرين، فنختار المرفأ الأقرب في الغرفة أو في القشرة السطحية التي نختبىء تحت ظلها، ولهذا نجد بأن العديد من البشر قد ترجموا هذا الإحساس إلى طلاسم فنية أحيانا لا يدرك كنهها، تظل رهينة بمبدعها الذي أنجزها. ورغم ما يبدو في الكثير من الأعمال الفنية من تعقيدات، فإنها جزء من ذلك المشهد الآخر الذي لا يستطيع أن يكون سيد البيت الخاص، فبيوته أحيانا تعود به إلى تلك الأرحام النائية، وكأنه يتخيل أسرته ملتفة حوله، تتناول كؤوس القهوة مع الاسفنج الجميل وحبات اللوز والتمر، مستقبلة حضوره إلى العالم، وهو ملتف في القماط، يئن من العالم والآخرون يبتسمون بفرح؛ كل تلك الصور والحكايا يستعيدها أهلنا بالكثير من الجمال وكأنها كتاب قديم.

الساعات الناعمة هي الساعات التي تربكنا في كثير من الأحيان وتجعلنا نبحث عن أنفسنا، ولعلي وأنا أستمع إلى أغاني pink floyd تشدني دوما تلك الصرخة العالية التي تعلن عن نفسها وهي تقهر الزمن، كما يبدو الزمن تعيسا حين لا نخرج عن ذواتنا. ففي كل الصور والأحاسيس، شيء ما من الانفعال يجرنا نحو الهاوية، لذا يبدو الإنسان في الكثير من الأحيان وكأنه ضاج من نفسه، كما يحدث في سيرة الكلمات التي غنتها الفرقة بشغف كبير و تحمل عنوان

« أن تنكشف للآخرين wearing the inside out » وهي موجودة على اليوتوب بصور لوحات سالفادور دالي، وبالتحديد ساعاته الناعمة. يبدو الزمن من خلالها وهو يستعيد حالة شخصية لإنسان منطفىء يرى الزمن يستعاد من الصباح إلى المساء بنفس البرودة والشحوب، لكنه يثابر كي يستيقظ ويحاور ذاته، ويرى بأن عليه أن ينكشف للآخرين لأن في الانكشاف تكمن قوة الحياة.

اترك رد