منبر العراق الحر :
الطيور كائنات مذهلة، لديها قدرة فريدة على التحمل، إذ يمكن لصغيرة الحجم منها، مثل العصافير المغردة، أن تخفق بجناحيها لمدة 100 ساعة في رحلة واحدة، تقطعها من كندا إلى أميركا الجنوبية، وهي القدرة التي دائماً ما تُثير فضول العلماء في مختبرات البحث.
وفي محاولة جديدة لسبر أغوار الهجرات الطويلة للطيور، عكف باحثون بقيادة جامعة ماساتشوستس أمهيرست على دراسة سلوك سرب من الطيور المغردة عبر نفق الرياح (Wind tunnel)، الذي يُعدّ وسيلة لإجراء التجارب والأبحاث التي تدرس تأثير حركة الهواء على الأجسام.
وتوصل الباحثون في دراسة جديدة نُشرت أخيراً في دورية وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم، إلى أنّ الطيور المغردة تغذي نفسها بطريقة مختلفة عمّا كان يعتقده العلماء سابقاً، إذ تحرق في وقت مبكر من الرحلة الكثير من الدهون، إلى جانب كمية مدهشة من البروتين الذي يشكل كتلة أجسامها النحيلة، بما في ذلك العضلات.
ولسنوات طويلة، اعتقد العلماء أنّ الطيور تحرق الدهون بالأساس منذ بداية الرحلة، لكنها لا تزيد من استهلاك البروتين إلا مع نهايتها. هذه الفرضية باتت من الماضي الآن، بعدما توصل العلماء إلى فرضيتهم الجديدة.
تحرق الطيور المغردة الدهون والبروتين منذ بداية الرحلة، عكس الشائع.
نمط استهلاك الطاقة
الطيور المغردة هي رتيبة تتبع طائفة الطيور من شعبة الحبليات. وثمة اسم آخر يُرى كاسم علمي أو دارج في بعض الأحيان وهو أوسين (Oscines)، والمشتق من التسمية اللاتينية أوسن (oscen) أو “الطائر المغرد”.
وتضم هذه الطائفة من الطيور نحو 4000 نوع في جميع أنحاء العالم. وفي المعتاد، تقوم الطيور المغردة برحلتين في السنة، من دون توقف لأكثر من 1000 ميل، للانتقال من نطاق التكاثر في الشمال إلى الجنوب، حيث الدفء والغذاء الوفير.
هذه الرحلات كانت مثار اهتمام الدكتور كوري إلوي، المؤلف الرئيسي للدراسة، الذي يقول بدوره: “أثناء هذه الهجرات، يمكن للطيور الطيران لساعات أو حتى أيام من دون توقف، وفي الغالب تحرق الدهون للتغذية، إذ تحتوي على الكثير من الطاقة في شكل خفيف الوزن. كما تحرق البروتين أيضاً، الذي يأتي من الأعضاء الداخلية والعضلات المهمة”.
ويضيف لـ”النهار العربي”: “هذا السلوك في استهلاك الدهون والبروتين ليس شيئاً جيداً في العادة، لذلك افترض العلماء لفترات طويلة أنّ هذا مجرد أثر جانبي للطيران، كان على الطيور التكيف معه”.
لمراقبة الآلية التي ينهار بها البروتين في أثناء الطيران، التقط الفريق البحثي نوعين من الطيور البرية التي تهاجر لمسافات مختلفة. أطلق الباحثون الطيور في نفق الرياح، وتمكنوا من قياس كمية الدهون والبروتينات التي استهلكتها في أثناء هذه الرحلات داخل النفق.
في الماضي، وقبل ابتكار تجارب نفق الرياح، لم يكن بمقدور العلماء فحص الطيور بالدقة الكافية، حيث كان يتم قياس مستويات الدهون والبروتين في الطيور بعد قتلها، وقياس حجم أعضائها، وكمية الدهون التي تحملها، ما لا يسمح بالطبع بإعادة قياس نسب هذه المستويات مرة أخرى.
في المقابل، يشرح إلوي: “في تجارب نفق الرياح، نستخدم الرنين المغناطيسي الكمي (QMR) لإجراء مسح ضوئي للطائر، والحصول على كمية الدهون والكتلة الخالية من الدهون التي يحملها في غضون دقائق. يمكن بعد ذلك نقل هذا الطائر في نفق رياح والمسح ضوئياً مرة أخرى في نهاية الرحلة، ما يعطينا التغييرات في كتلة الدهون، والكتلة الخالية من الدهون، خلال الرحلة”.
ويكشف: “تأكدنا أن الطيور استخدمت الدهون باستمرار أثناء الطيران. في المقابل، لم يتم تكسير البروتين بقدر ثابت خلال الرحلة، حيث ارتفع معدل فقد البروتين في الساعات القليلة الأولى من الطيران”.
ويستطرد: “بعض الطيور طارت نحو 28 ساعة محطمة الأرقام القياسية للطيران في نفق الرياح، لكن عندما قررت تلك الطيور التوقف عن الطيران، لاحظنا أنه لا يزال لديها الكثير من الدهون، ولكن عضلاتها بدت أقل حجماً بكثير مما كانت عليه في بداية الطيران، لذلك يبدو أن البروتين قد حد من قدرتها على الطيران أكثر من الدهون”.
توفر أبحاث “نفق الرياح” نتائج دقيقة
أهمية قصوى
وعن أهمية هذا النوع من الدراسات، يقول الدكتور إلوي إنّ الطيور المهاجرة هي من بين الكائنات الأكثر عرضة للخطر جراء التغيرات المناخية. وفهم كيفية استهلاكها للطاقة أثناء الطيران، يمكن أن يساعدنا في التعرف إلى ما يلزمها لإكمال رحلاتها، والتنبؤ تنبّؤاً أكثر دقة بالمكان والوقت الذي قد تكون فيه أكثر عرضة للتأثيرات السلبية للتغيرات البيئية.
ويستطرد: “تُعدّ الطيور أيضاً كائنات رائعة للدراسة، حيث تساعدنا في معرفة المزيد عن تمارين التحمّل ونمو الأنسجة المرن، إذ تستطيع التأقلم جيداً لساعات أو أيام من التمارين العالية الكثافة بلا توقف، كما تستطيع تغيير أجسادها تغيراً كبيراً أثناء الاستعداد للهجرة، وإعادة بناء أجسامها بسرعة بعد هذه الرحلات الطويلة”.
ويضيف: “من خلال تحليق الطيور لفترة طويلة في نفق الرياح، يمكننا الحصول على نظرة كمية غير مسبوقة في المسار الزمني حيال استخدام الطيور للطاقة أثناء الطيران، وفهم العوامل التي قد تحدّ من مدة طيرانها طيراناً أفضل”.
ويردف: “بعدما بيّنا أن هذه الطيور تحرق الكثير من البروتين في وقت مبكر من رحلاتها، فإننا نطرح أسئلة عن الغرض من فقدان هذا البروتين، وكيف ولماذا قد يكون متكيفاً مع رحلة الهجرة؟”.
يستعد إلوي وفريقه البحثي للإجابة عن هذه الأسئلة عبر إجراء دراسات جديدة، إذ يقول إنّ “الخطوات التالية تتمثل في تحديد الغرض من حرق البروتين في الرحلة المبكرة، والآن لدينا العديد من الفرضيات، وهذه الدراسة تساعد في استبعاد بعضها”.
ويتابع: “تبقى ثمَّة أسئلة بحاجة إلى إجابات لعل أهمها: هل يمكن أن يكون حرق البروتين مجرد استجابة هرمونية لبدء الرحلة؟ أم استجابة موسمية لتوقع ظروف الطيران أثناء الهجرة؟ ستساعدنا هذه الإجابات على فهم كيف تنجز هذه الطيور تلك الرحلات الملحمية، وتجري مثل هذه التغييرات السريعة المذهلة في أجسامها”.