منبر العراق الحر :
منذ طفولتنا كنا نردد ؛ أيها النهر لاتسر وانتظرني لأتبعك !
كانت الرحلة عبر النهر ،دجلة البساتين وفرات العذوبة ، أنهار أخرى تغسل الذكريات من غبار الأزمنة ، أنهار أنتحرت أو نُحرت ، وأخرى لم تزل وسادة للوضوء والتعميد والسقي والرزق، وسلاحنا البارد لمواجهة الصحراء اليابسة والوطن الساخن !
في طفولتنا، كان النهر يغمر أجسادنا في لقاء يومي يبدأ مع ظهيرة حزيران نحو غروبها ، بعض الصبيان لايعودون لبيوت أهلهم ، يعشقهم النهر ..فيأخذهم بعيدا ً نحو أعماقه ، لايرجعون رغم صراخ الأمهات وعويلهن وتوسلاتهن اليائسة ومراباتهن للشرائع والسماء .
كم بكينا في طفولتنا، عبئنا الحزن في جيوبه حين لاحقنا العمر والحكومات السافلة وفراق الأهل والذكرى، شعب مصنوع من البكاء والدموع لايقاوم العيش دون تاريخه الغارق بأنهار الحزن ومواعيد فيضانها في حزيران،
وفي طفولة العراق كان كلكامش يغسل أحزانه في الفرات، يبكي وينوح، كلما عصفت به ذكرى الراحلين .
ترتفع المياه في أنهر البلاد ، حين تلتمع في الآفاق حرارة لهيب الشمس ، تذوب الثلوج فوق القمم على رأس الوطن، تبدأ تباشير الرطب في نخيل الجنوب وهي ترتوي من العذب النازل نحو جذورها، فيضان الأنهر والسمك، موعد وصول( الخريط) من الأهوار لضفاف المدن الباحثة عن أول حلوى في التاريخ البشري .
الصيف في بلادي يتنفس لهيب ناري مثل فرن كوني، لكنه لايجرأ ان يلامس النهر ، وتلك الأجساد اللائذة بماء النهر وغرينه، لاعاصم من القيظ سوى ظل النخل وبعض السفوح الباردة .
{ حييت سفحك ضمآن الوذ به ..لوذ الحمام بين الماء والطين }
لنا حكايا مع الأنهار تؤثث تاريخنا، أحزاننا وأفراحنا ، خوفنا وشجاعتنا ، نضالنا وهروبنا ، هزيمتنا وهزيمتنا ..! جبلنا على الهزيمة ، نحن لم نعرف نصرأ ً خارج الأشعار وقصص الخرافة والتزوير ، من يحارب لأجل قضية ما، ينتصر ..لابد ان ينتصر ، لكننا لم نحارب بل كنا نذبح بإستسلام ، ثم ننشد أجمل الأغاني للذباح ، بطلنا القومي أو الطائفي أو السرسري .
يوم غنى الشاعر قصيدته الأخيرة ” مرينه بيكم حمد ، واحنه بقطار الليل ،
” سقط القطار عن الخريطة ” ،
توارى الماضي منزويا ً خلف الحاضر المستعار من بعض الهزائم والسقوط .
أنا العالق بطفولتني، تأخذني الرغبة للشط، لأغسل نهر العمر من أحزان لم أشتهيها ، تملؤني الآن رائحة الغريّن والعشب وأول الرطب ومذاق ” الحابسي ” والمشمش المتأخر عن صيف العراق، يملؤني دجلة بالقصائد، يغمرني الفرات بذكريات الدم ونواح صديقي المسافر منذ زمن بعيد .
ثم توقظك الحقيقة، وطن ساخن لاتكافحه كل أنهار الكون.
Falah.almashal@yahoo.com.
منبر العراق الحر منبر العراق الحر