مشهد اغتصاب في “التّانغو الأخير في باريس” محور فيلم جديد يُعيد حركة MeToo# إلى الواجهة

منبر العراق الحر:

عندما شرح بعد سنوات لماذا أقحم ماريا شنايدر، الممثلة المغمورة آنذاك، في مشهد اغتصاب مرتجل، برّر المخرج برناردو برتولوتشي خطوته بأنّه أراد أن يُظهر مشاعر “الغضب” و”الإذلال” الحقيقيَّين. وهو ما حدث بالفعل!
جاء “التانغو الأخير في باريس” تأمّلاً استفزازياً في الحب والجنس، يتورّط فيه جنسيّاً أميركيٌّ مكتئبٌ (مارلون براندو) فَقَدَ زوجته مؤخّراً، مع شابة باريسية (ماريا شنايدر). فيلم نال إشادة من النقّاد لجرأته ورُشّح لجائزتي “أوسكار” لبراندو وبارتولوتشي، لكنّه أحدث صدمة لدى عرضه في عام 1972، ومُنع في بعض البلدان، ومنها إيطاليا. أمّا أكثر اللحظات إثارة للجدل فتجسّدت في مشهد معروف بـ”مشهد الزبدة”، جمع براندو – الذي كان في الـ48 من عمره وقتذاك – بشنايدر التي كانت في الـ19 من عمرها.
اليوم، ثمّة فيلم يتناول التجربة المؤلمة التي عاشتها شنايدر خلال تصوير الفيلم يُعرض للمرّة الأولى ضمن مهرجان كان السينمائي، في عام يتّسم بالجدل حول حركة “MeToo#” وإفلات صانعي الأفلام من العقاب.
***
في أوائل السبعينيات، قلّة من الأفلام أثارت الانتباه بقدر فيلم “التانغو الأخير في باريس”. في نيويورك، احتفلت الناقدة السينمائية بولين كايل بـ”عمل غيّر وجه فن السينما”؛ أما في إيطاليا، فقد أحدث عرضه ضجّة صاخبة. تسبّبت المشاهد الجنسية الصريحة بمشكلات لاحقت فيلم برتولوتشي حدّ منعه في بلده الأمّ، لأنّها تجاوزت بأشواطٍ كلّ ما قدّمته سينما “الماينستريم” وتيّاراتها السائدة حدّ جنوحها نحو الإباحية.
كان برتولوتشي قد قرأ قصّة رجل وامرأة يلتقيان في شقّة باريسية فارغة لممارسة الجنس. الشقة ليست شقّتهما ولا يعرف أحدهما اسم الآخر. “كان عدم معرفة الاسم نوعاً من الانفصال عن الهوية الاجتماعية، خارج كلّ اعتبار للمحيط”، على ما ذكر في مقابلة معه. بادئ الأمر، أراد إسناد الدور إلى جان بول بلموندو، إلا أنّ الأخير طرده من بيته عندما عرضه عليه، قائلاً إنه لا يشارك في فيلم إباحي. ثمّ اقترحه على آلان دولون الذي وافق بشرط أن يشارك في الإنتاج، فرفض برتولوتشي.
اقتُرح اسم براندو خلال اجتماع لمنتجين. ويروي برتولوتشي أنّه عندما باشر التصوير، زار مع براندو ومدير التصوير فيتوريو ستورارو معرضاً للرسام الرمزي البريطاني فرانسيس بايكون في الـ”غران باليه”. هناك، ولمّا راح الثلاثيّ يتأمّل اللوحات، فهموا “أهمّية أن يتضمّن الفيلم لقطات قريبة”. كانت بورتريات بايكون “يائسة”، قال برتولوتشي غير مرّة، “صوّرتُ براندو وفي بالي هذا. هو لم يكن يعرف حتى مَن هو بايكون”.
عندما امتدحت كايل “التانغو الأخير” مطوّلاً في مجلّة “نيويوركر”، عقب عرضه الأول، قالت إنّه فيلم “سيتجادل الناس حوله طالما وُجدت الأفلام”. كان، ممّا لا شكّ فيه، أكثر الأفلام “إيروتيكيّة” على الإطلاق، وأكثرها تحرّراً، قدّم للجمهور وليمة شهوانية عرّضته لصدمة من الواقعية الجديدة.
في المقابل، أظهر تأثير “التانغو الأخير” المتفجّر للجمهور الواسع ما يعرفه السينيفيليّون بالفعل، وهو أنّ بيرتولوتشي، وقد كان في الـ31 من عمره، هو أكثر المخرجين الموهوبين في إيطاليا من أبناء جيله بعد فيديريكو فليني وميكيلآنجيلو أنتونيوني، وأحد أفضل المخرجين الشبان على الساحة العالمية.
ربّما بالغت كايل بتقديرها “التانغو الأخير”، ولكنّ الجدل المستمرّ حوله منذ 52 عاماً، والذي يخبو حيناً ويعود صارخاً أحياناً، قد يجعلها على حقّ نوعاً ما، لا سيّما مع عرض فيلم “Being Maria” في دورة “كان” الـ77. فيلم سيرة جديد يروي قصة الممثلة الفرنسية ماريا شنايدر مع “التانغو الأخير”، الإنجاز الذي أطلق مسيرتها المهنيّة وجعلها ممثّلة عالميّة واعدة، مدمّراً في الوقت نفسه حياتها.
 
“تروما”
تؤدّي آنا ماريا فارتولوميي – الممثلة الفرنسية الرومانية، والفائزة مؤخراً بجائزة “لوميير” لأفضل ممثلة، وجائزة “سيزار” لأكثر ممثلة واعدة عن أدائها في فيلم “Happening” – دور البطولة في الفيلم الذي يصوّر كيف أنّ شنايدر لم تتعافَ أبداً من “التانغو الأخير”.
آلمها تصوير مشهد تعرّضها للاغتصاب على يد براندو على أرضيّة الشقة الباريسية، والذي لم يرد في النص الأساسي. كانت الممثلة المغمورة قد أُبلغت بالطبيعة الجنسية الصريحة لبعض المشاهد، لكنّها لم تكن مستعدّة للمحاكاة التي فُرضت عليها فجأة. قالت ذات مرّة إنّها شعرت بالاغتصاب مرّتَيْن، مرّة من قِبَل براندو، ومرّة من قِبَل برتولوتشي.
“حتّى وإن لم يكن ما يفعله مارلون حقيقياً، كانت دموعي حقيقية”، قالت شنايدر، “شعرتُ بالإهانة، وبصراحة، شعرت وكأنني تعرضت للاغتصاب قليلاً (…). بعد تصوير المشهد، لم يُعزِّني مارلون ولم يعتذر. لحسن الحظ، صوّرنا المشهد مرّة واحدة”.
على رغم ظهورها في أكثر من 50 فيلماً، ظلّت تجربة “التانغو الأخير” تطاردها. حصرها الفيلم في “صورة الرمز الجنسي” بدلاً من الممثلة الجدّية. تلت ذلك حالات اكتئاب وإدمان المخدرات ومحاولات انتحار، إلى أن توفيت بالسرطان في عام 2011 عن عمر يناهز 58 عاماً.
“ثمّ كرهتني طيلة حياتها”
في عام 2013، اعترف برتولوتشي بأنّه لم يُنذر شنايدر بالأمر لأنّه “أراد التقاط ردّ فعل الفتاة وليس الممثلة”. أراد أن تتفاعل “بشكل مُهين”. “كانت تكرهني وتكره مارلون أيضاً لأنّنا لم نخبرها”، قال المخرج الإيطالي، “ومع ذلك، لا أندم على قراري (…) فللحصول على شيء ما، أعتقد أنه يجب أن تكون حرّاً تماماً؛ لم أرد أن تمثّل ماريا شعورها بالإهانة والغضب، أردت تشعر بالغضب والإهانة. ثمّ كرهتني طيلة حياتها”.
في عام 2016، بعد 44 عاماً على تصوير “التانغو الأخير” وثلاث سنوات على اعتراف برتولوتشي، قال مدير التصوير فيتوريو ستورارو لـ”ذي هوليوود ريبورتر” إنّ كلّ ما حام حول “مشهد الزبدة” سيئ السمعة “اختلقه بعض الصحافيّين الجاهلين”، متحدّثاً عن شعوره بـ”الاشمئزاز الحقيقي” ممّا كُتب، “وهو ليس صحيحاً على الإطلاق”.
يروي ستورارو أنّ برناردو اعتقد أنّه لم يشرح لماريا ما سيحصل بالكامل منذ البداية، “ولهذا شعر بقليل من الذنب”. ما قاله برتولوتشي لاحقاً وأعاد ستورارو التذكير به هو أنّه “كان يودّ الاعتذار لماريا، فقط لأنّه ربما لم يشرح لها ما ناقشه مع براندو”.
 
“MeToo#”
سيناريو فيلم “Being Maria” (إخراج جيسيكا بالود) مقتبس من كتاب بقلم فانيسا شنايدر، صحافية في جريدة “لوموند” وابنة عم ماريا الصغرى، ومبنيّ بالكامل حول الحادثة المحورية.
سبق عرض “Being Maria” في “كان” العرض الأول لفيلم قصير من إخراج جوديث غودريش بعنوان “Moi Aussi” (أنا أيضاً). أصبحت الممثلة والمخرجة سفيرة غير رسمية لحركة “MeToo#” في فرنسا، بعدما اتّهمت جاك دويلون (80 عاماً) وبينوا جاكوت (77 عاماً)، باغتصابها عندما كانا تمثّل تحت إخراجهما وهي مراهقة في الثمانينيات، بينما ينكر كلا الرجلين ادّعاءاتها. قالت غودريش إنّها تأمل أن يساعد الفيلم في إنهاء “الصمت” حول العنف الجنسي وتشجيع المزيد من النساء على الإبلاغ عن أيّ اعتداء.
المصدر: النهار العربي
شربل بكاسيني

اترك رد