في ذاكرة رخوة ….كريم خلف الغالبي

منبر العراق الحر :
الذكريات سجل عتيق لا يتجدد في كل حين ، لكنه يدون حتى آخر لحظة من العمر ، وما أتعس تلك اللحظة الأخيرة ، كيف يتصفحها ويعيدها إلى الأذهان وقد غمرت مع من اندثر تحت التراب ، ومع هذا فان تلك اللحظة الأخيرة تلجُ إلى ذاكرة من كان قريبا منه لحظة انتزاع الروح ، قد يرسم لها صورة تختلف تماما عن الذي يشعر بها ، الذكريات سجل مهمل على آخر رفٍّ من تلافيف الذاكرة ، فيها : ما سر وضر ، الحي والميت ، الحزن والفرح ، المآثر و البطولات ، الانتصارات والانكسارات ، التردد و الإقدام ، الحب بأنواعه ، الباقي والعابر ، المعز والمذل ، الوفي و الخائن ،ومع هذا يبقى السؤال يجيب على نفسه عندما نسأل : لماذا لحظات الحزن والألم والبلاء والوجع لها حضورٌ طاغٍ في تلك الذاكرة ؟ وإذا كانت الذكريات مرّة فلماذا نتلذذ بها عندما نعيد أحداثها؟ أليس للزمن المرتبط بذلك الحدث اثر بالغ فيه؟ أليس القضية لها ارتباط بالحدث ؟ وان سر لذتها ما نحن عليه من نضارة وشباب وقوة ، وهل تختلف كثيرا عن التي ترتبط بخريف عمر ينوء بها ؟ هذا ما اعتاد على نقاشه صديقان يتلاقيان عصر كل يوم للنزهة على نهر الفرات الذي تغفو على جانبيه تلك المدينة التي أعياها وقع الأقدام وهي تجوبها عرضا وطولا ، تركت على أرصفتها آثار وجع السنين وشهقات أحلام العابرين ، وهم يرحلون عنها بلا عودة ، غمرهم الثرى وسكنوا قبورا لم يذكرها احد ، إنهما صديقان حميمان عاشا معا وتجاورا على مقعدين من الدراسة في الجامعة ، تزوجا وأنجبا ومرَّ بهم قطار الزمن على عجل حتى وجدا أنفسهما يقلبان صفحات الماضي ، ويستذكران مواقف شبابهم عندما كانا يلاحقان أحلامهم التي يرسمونها ، وبعد صلاة الغروب يتقابلان في مقهى صغيرة يحتسيان الشاي الذي لا يشربانه إلا من يدي صاحب هذه المقهى ، يطلبان منه أن يعيد لهما حركة يديه وهي تمسك بعشرة أقداح من الشاي دون أن تسقط قطرة واحدة من تلك الأقداح ، وعندما يوزعها على الجالسين يسبق القدح سقوط صحن صيني صغير بحركته المائلة ، ليستقر أخيرا في المكان الذي يريد يتبعه قدح الشاي الذي ينتزعه من بين الأقداح برنَّة تثير لعاب الجالسين كي يكرروا طلبهم مرة أخرى ، وهناك حيث لا هناك ، لا تسمع سوى إيقاع قطع الدومينو وهي تلتصق مع بعضها ليبعثر سر تلاصقها من جديد فائز يضرب الطبلة الخشبية بقوة ، معلنا موت (الشش) ليعود إلى الوراء متكئا ، منتشيا بفوزه على الآخرين ، مازالت خطوط صبغة الشاي السوداء تزين أطراف أصابعه ، أما حزامه الجلدي الذي ينزل أسفل بطنه المنتفخة ، فما زال يحتفظ به في غرفته القابعة هناك في بيت بأطراف المدينة ، وكأنه وسامٌ أو نوطٌ من أنواط الشجاعة التي قلدها له الزمن في معركة الحياة ، قال له احدهما لم لا تصوره يا (أبا سرحان) وترينا إياه ، لنستذكرك ونذكر أماكن جلوسنا في تلك المقهى التي تسمى بمقهى التجار آنذاك ، كان أبا سرحان عاملا فيها ولم يحتفظ بشيء منها سوى ذكريات رجال المدينة ، وبعض صور قديمة لتلك المقهى بشخوصها التي لم تبن ملامحهم فيها ، كان هناك قد جلس (عبد الرحمن مجيد الربيعي) ليدون ملاحظات قصصه ، وهنا جلس على عجل محتسيا وجعه (محمد سعيد الحبوبي) قبل لحظات من أصابته برصاصة طائشة من فوهات بنادق الانكليز ، وهم يحاصرونه في الساحة التي سميت باسمه ، وهنا تخاصم الشيوعيون مع البعثيين وانهوا معركتهم بسحل احدهم الذي ضاعت ملامحه بمياه المجاري الآسنة ، لكن جريدة (طريق الشعب) التي بقي متمسكا بها كشفت هويته لتركله قدم بعثي بترت ساقه في الحرب الأخيرة ، مفكرون ، أدباء ، سياسيون ، ممثلون ومطربون كلهم مروا هنا ، مقهى كبيرة لا تتنفس سوى الدخان الممزوج بحسرات المعوزين وأنفاس المخمورين الذين لا يغادرونها إلا في آخر الليل ، يدخلون بيوتهم مترنحين لا تعرف نساؤهم موعدا لعودتهم ، يتركن الأبواب نصف مغلقة كي لا يفسدون عليهنَّ أحلام وحدتهن ، غابوا ولم تبق منهم سوى ذكريات ، احتفظ بها أبو سرحان ليس بشريط فديوي ولكن في ذاكرة رخوة ، وفي اليوم التالي عندما عاد الصديقان إلى تلك المقهى الصغيرة وجدوها مغلقة وعليها قطعة سوداء تنعى فقدان تلك الذكريات إلى الأبد .

اترك رد