منبر العراق الحر :
في أعمق زوايا التاريخ، حيث يلتقي الحزن بالمأساة، تتناثر بقايا أماكن تحمل في جدرانها ذكريات ألم لا يُمحى. تلك الأماكن، التي كانت يوماً ما مسرحاً للموت والمعاناة، أصبحت اليوم وجهات سياحية يقصدها الزوار من مختلف أنحاء العالم. ولكن ما الذي يدفع البشر للذهاب إلى أماكن تعرف بماضيها القاسي؟ هل هو الفضول المظلم، أم رغبة في الاقتراب من الموت والكوارث؟ بين موقع أوشفيتز، الذي يحمل بين جدرانه آثار تاريخية مظلمة، وبرج غرينفيل، الذي أصبح رمزًا لمأساة إنسانية، نشأت ظاهرة جديدة تُسمى “السياحة المظلمة”، حيث تلتقي الحقيقة بالتاريخ، والحزن بالجمال الغامض.
تاريخ ومفهوم السياحة المظلمة
السياحة المظلمة، التي تُعرّف بزيارة مواقع ترتبط بالموت والمعاناة والكوارث، هي ظاهرة قديمة ولكنها لم تُدرس أكاديمياً إلا منذ منتصف التسعينيات. ووفقاً لموقع https://www.psychologytoday.com/ ، صاغ الباحثان فولي ولينون مصطلح “السياحة المظلمة” في عام 1996 لوصف الجذب السياحي المرتبط بالمآسي. تشمل هذه المواقع معسكرات الإبادة، مناطق الكوارث النووية، وأماكن ارتكاب الجرائم الفظيعة.
من مواقع كوارث إلى وجهات سياحية
تجمع السياحة المظلمة بين الحزن والجمال الغامض، حيث أصبحت مواقع الكوارث والمآسي جزءاً من اهتمامات السياح حول العالم. تختلف دوافع الناس لزيارة هذه الأماكن بين الفضول المحموم والرغبة في مواجهة الموت عن قرب، أو محاولة فهم الماضي المظلم الذي شكّل العالم. ومن أبرز هذه المواقع معسكر أوشفيتز، الذي يحمل بين جدرانه تاريخاً محمّلاً بالألم، وبرج غرينفيل في لندن، الذي تحوّل إلى رمز مأساوي بعد الحريق المدمّر الذي أودى بحياة 71 شخصاً.
برج غرينفيل في لندن
الدوافع:
تتنوّع الدوافع التي تقود الناس لزيارة مواقع السياحة المظلمة، حيث تمزج بين الحاجات النفسية والرغبة في المعرفة. أحد أبرز هذه الدوافع هو الفضول، الذي يدفع الأفراد للبحث عن تجارب فريدة وغير مألوفة. كما يلعب التعاطف دوراً مهماً، حيث يسعى الزوار لفهم معاناة الآخرين والتعبير عن تضامنهم معهم. إلى جانب ذلك، يجذب شعور الرعب البعض لاستكشاف أجواء الأحداث المأساوية عن قرب.
من جهة أخرى، تعتبر الثقافة دافعاً رئيسياً، إذ تُوفر هذه المواقع فرصة لاكتساب المعرفة وفهم التاريخ عبر التجربة المباشرة. الحنين أيضاً يعدّ عاملاً محفزاً، حيث يجد الزوار فيها وسيلة لاسترجاع الذكريات والعودة إلى الماضي. أما التذكّر، فهو عنصر أساسي للحفاظ على الذاكرة التاريخية وتعزيز الهوية الإنسانية. وأخيراً، يلجأ الناجون أو أُسر الضحايا إلى زيارة هذه المواقع بحثاً عن الشفاء النفسي واستيعاب الأحداث المأساوية التي شكّلت حياتهم.
السياحة المظلمة: بين برج غرينفيل والتراث الصعب
شهد برج غرينفيل في لندن، عقب الحريق المأساوي الذي أودى بحياة العديد، مشاهد متناقضة أثارت جدلاً واسعاً. ففي حين كانت العائلات تبحث عن أحبائها المفقودين، توافد السياح لالتقاط الصور التذكارية أمام الأنقاض، مما أثار تساؤلات حول حدود الاحترام في مثل هذه المواقع. وتكرر هذا المشهد في مواقع أخرى مثل معسكر أوشفيتز ومتحف 11 أيلول (سبتمبر)، حيث أصبحت هذه الأماكن جزءاً من “التراث الصعب”، الذي يخلّد ذكريات الموت والكوارث، ويجمع بين التذكّر والفضول البشري.
النصب التذكاري لأحداث 11 سبتمبر – نيويورك
التحديات الأخلاقية للسياحة المظلمة
تثير السياحة المظلمة العديد من التحديات الأخلاقية، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالتفاعل مع الأماكن التي تحمل مآسي. في بعض الأحيان، تُختصر الزيارة إلى مجرّد استعراض أو تجربة “ممنوعة” على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل التقاط صور سيلفي أمام المواقع المأساوية. وبينما يذهب البعض إلى هذه المواقع بدافع الاحترام، يرى آخرون أن هناك تجاوزاً للحدود الأخلاقية في كيفية التعامل مع الذكريات المؤلمة.
أبرز المواقع للسياحة المظلمة
يقدّم موقع “dark-tourism.com” قائمة من أبرز المواقع التي تعد جزءاً من السياحة المظلمة، وتشمل:
1. تشيرنوبيل وبريبيات، أوكرانيا:
تعد منطقة تشيرنوبيل من أشهر المواقع المرتبطة بالكوارث النووية، حيث يمكن للسياح زيارة المدينة المهجورة والتعرف على آثار الكارثة.
2. هيروشيما وناجازاكي، اليابان:
شهدت هاتان المدينتان قصفاً نووياً في عام 1945، وهما الآن تحتضنان متاحف ونصباً تذكارياً للسلام.
3. برلين، ألمانيا: تضم المدينة مواقع مثل جدار برلين والنصب التذكاري للهولوكوست، التي تعكس تاريخ الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة.
4. رواندا – مورامبي، نياماتا، كيغالي: هذه النصب التذكارية تكرم ضحايا الإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا عام 1994.
5. بوليجون، كازاخستان: موقع لاختبارات الأسلحة النووية السوفيتية التي شملت أكثر من 450 تفجيراً نووياً.
6. تول سلينغ وحقول القتل في كمبوديا: تعد هذه المواقع التاريخية تذكيراً بالفظائع التي ارتكبها الخمير الحمر في السبعينيات.
7. معسكر ماجدانيك، بولندا:
معسكر نازي حيث قُتل عشرات الآلاف من الأشخاص، وهو الآن نصب تذكاري.
8. حطام سفينة التايتانيك، شمال الأطلسي:
الموقع الذي غرقت فيه سفينة التايتانيك في عام 1912، ويقع الحطام على عمق 12,500 قدم تحت سطح البحر.
9. جزيرة روبن، جنوب أفريقيا:
سجن سابق لنيلسون مانديلا خلال الفصل العنصري، الذي يعدّ الآن موقعاً سياحياً يعكس تاريخ نضال الحرية.
تمثل السياحة المظلمة مزيجاً معقداً من الفضول البشري والذاكرة التاريخية، حيث يذهب الناس إلى أماكن شهدت مآسي عظيمة، إما بحثاً عن فهم أعمق للتاريخ أو لمواجهة فكرة الموت عن قرب. ومع تزايد الوعي بأهمية احترام الذكريات المرتبطة بهذه المواقع، يبقى السؤال: أين يجب أن نرسم الحدود بين الفضول الشخصي والاحترام الواجب؟
نانسي فضّول
المصدر: النهار